منذ ١١ عاماً، وبطريقة غريبة، حدثت سلسلة من الصُّدف ضعيفة الإحتمال، مستحيلة التتابع، أدّت إلى إلقاء القبض عليّ، على ذمّة أحداث مرتبطة بموقفي السياسي حينها وأفكاري السابقة التي خدمتها بكل عزم وإخلاص، كما أفعل دائماً مع أفكاري وقناعاتي.. !

ورغم ألمي حينها وشعور الضيم والقهر، ومشاعر المظلومية التي عشتها متسقاً مع مَن حولي، و ٤٠٠٠ يوم كأنهم ٤٠٠٠ سنة من أطول السنين، إلّا أنها وبعد أن انقضت لستُ آسفاً عليها كلها، ولا على أي يوم، ولا على أي ساعة، فقد علمتني محنتي هذه الكثير والكثير من الدروس التي لن أنساها، والتي أصرّ على مشاركة نتائجها مع كل من يريد الإعتبار .. !!

دخلتُ السجن وعمري ٢٤ سنة، وخرجت تفصلني أيام قليلة عن إتمام الـ ٣٥ من عمري، مُتعَباً مُرهَقا، عاطِلاً مُجرَّدا فاقداً لكلّ شيئ، بل مَديناً بقيمة الغرامة المقررة في القضية، والتي اضطررت لاستدانتها، فعند انتهاء مُدّتي كان أهلي لم يستفيقوا بعدُ من وقائع نَصب كالتي وقع فيها أغلب أهالي المحبوسين!

لستُ أيضاً آسفاً على هذا، ولا على أيّ شيئ من تبعات المحنة، لقد خسرتُ حقًّا كلّ شيئ، وتألمتُ آلاماً ما كنتُ أتصور أننّي أتحملها، غير أنّي في نهاية المطاف تعلمت الدروس فربحتُ نفسي، وربحتُ أشخاصاً قلائل ظلوا بالقرب، علمونا كيف تكون المروءة، وكيف يكون الوفاء، وكيف يكون الحبّ والإخلاص والشرف!

بعد فترة من سجني، وقبل تحولاتي الفكرية كان قد وصلني ما قيل أنها خطة عمل الجماعة ورؤيتها الخمسية، وأهم استراتيجياتها ( الوفاء بحقوق أصحاب الفضل "المحبوسين" من منظور شامل )، غير أنّ حقيقة ما حدث وجرى تنفيذه بمنهجية هو ( الغدر والخيانة والكذب والزور والإفك والإعراض والتعنت والصلف والغرور والفساد والإستكبار والنفاق بحقهم من منظور شامل ) .. !!

حقيقة لا لبس فيها، أنّ الكارثة الأكبر في المسيرة المروعة كان هروب هؤلاء الأشخاص إلى خارج البلاد، فلقد أثبتوا أنّ الفرار والهروب لا يؤدي إلا إلى الوضاعة والضلال والإلتباس والإنتكاس، فقد خرجوا ليس للتواري والإعتزال، كنا عذرناهم، وليس للتفاوض والتوصل إلى حلول، كنا أيدناهم، لكنهم خرجوا لنهب موارد ومقدرات بالمليارات، ومن ثَمّ تنازعوا حولها وتناحروا وتحاربوا وتباغضوا، ومن ثَمّ اختلفوا وتفرقوا في عدد من الكيانات، تتيح لهم أكبر عدد ممكن من الألقاب والمناصب والمواقع يريحون بها ضمائرهم الوضيعة، ويبررون بها استحواذهم على ما انتهبوه ولم يكن أبدا حقا من حقوق الهاربين .. !!

مهرجان المناصب للجميع، لا تكاد تلتقي أحدهم في اسطنبول حتى تجده مسئولا في تلك الجبهة، أو متحدثاً إعلاميا ضمن الفرق الإعلامية للجبهة الأخرى، أو رئيساً تنفيذياً لمؤسسة تتبع الفئة الأخرى، وربما تجد الشخص الواحد يحمل عدداً من الألقاب ويشغل عددا من المناصب تتيح له أكبر قدر ممكن من الموارد .. !

غير عشرات القنوات والمواقع الإلكترونية والصفحات على مواقع التواصل والمؤسسات والمنظمات والتي يعمل بها الآلاف، يتقاضون ملايين الدولارات، تبحث عن فائدة واحدة تأتي من خلفهم فلا تجد شبهة لفائدة، ولا إحتمالية لمنفعة، إنما ذمم وولاءات يجري شراءها بتلك المناصب والأموال، لتعزيز قوة كل فئة من الفئات وفرقة من الفرق .. !!

وبينما ينتهب اللصوص الهاربون الموارد والمقدرات، يسعى بعضهم لتعزيز مكاسبه، فيدير حسابات تدعي دعم المحبوسين، وتتباكى عليهم وهم الخونة الغدارين، ويجمعون باسمهم الأموال والتبرعات علنا دون خجل أو حياء، في حين أنّ واقع المغدورين يشي بالكثير من سوء الحال تبعات الغدر، ومن تفاقم الأوضاع نتاج الخيانة .. !

ولهذا فقد تفهمنا في السجن حين تطلعنا على سوء أحوالهم لماذا تهرب هؤلاء الخونة من استحقاقات طاولة المفاوضات مثلهم مثل أي طرفي نزاع في العالم وفي التاريخ، وجاءوا بما لم يسبق به أحد من العالمين، ووضعوا الشروط والعراقيل التي لا تتناسب وحقيقة حالهم وضآلتهم ووضاعتهم، وشنعوا على كل وسيط حاول أن يجد مخرجا للضحايا، وقدم مبادرات للوساطة، بل ومارسوا سلوكاً تحريضيا شائنا لا يؤدي إلى شيئ إلا لترسيخ أوضاعهم الفاسدة وتفاقم سوء أحوال الضحايا وتعقيد مواقفهم .. !!

وحين كانوا في مأمن ورخاء ورفاهية، انتهجوا التعنت والصلف ومبدأ المعادلات الصفرية، ومارسوا التحريض والأكاذيب والسخرية والتشويه والشماتة وكل سلوك خسيس بعيد عن الفضيلة ومناقض لحميد الأخلاق، لترسيخ المعادلة الصفرية، وضمان استتباب أمورهم وأوضاعهم .. !

ومع مرور الوقت قدّموا رغما عن أنوفهم كل شيئ سبق وأن رفضوا تقديمه لصالح انفراج حال الضحايا، وقدموه حين أحسوا باحتمالية تأثيره سلبا على مكتسباتهم في مهاربهم ومنافيهم، وسيقدمون مع الوقت كل شيئ يرفضونه اليوم رغما عنهم، إذا ما خافوا على مفاسدهم ومواقعهم ومناصبهم وأموال انتهبوها وألقاب أطلقوها على أنفسهم .. !

هذا الفساد الصارخ الواضح في جماعة طالما رفعت شعارات دينية، وقدمت خطابا عصبياً عاطفياً، دفعني كما دفع كثير من الشباب المكتوي بنارهم إلى إعادة النظر في كل شيئ، وإعادة التفكير في كل الأفكار والمواقف، وفي الأصول الفكرية والمنهجية بطريقة علمية، حتى توصلنا إلى كثير من النتائج، ومن التحولات في رؤيتنا للواقع بل وفي أفكارنا وقناعاتنا، وانطلقت مراجعات امتدت إلى الأفكار و الأطروحات السائدة في مجتمعاتنا، والتي نشطت جميعها في فترة من الفوضى الفكرية والإجتماعية الممتدة تبعاتها والراسخة أعراضها ونتائجها .. !

٤٠٠٠ يوم في السجن أدوا إلى كثير من التحولات والمراجعات، تواجهني تحديات هائلة في طرحها والتعبير عنها، أجتهد في التغلب عليها من باب الأمانة والمسئولية، ساعدتني عليها التجارب والعلوم والقراءات التي سأذكرها في منشورات لاحقة، قبل أن أنتقل معكم إلى بيت القصيد، ونطرح الاستنتاجات الفكرية والمنهجية، لعلها تنفع أحدا أو تقيه شراً .. !

وإذا أردت أن تنتفع، فاخلع عنك رداء العصبية، وتنازل عن أخلاق القبلية، وتجرد من أي انتماء لغير الدين والوطن، ومن أي سعي لغير الحق والحقيقة وإن تعارض مع انتمائك وولائك ومصلحتك الشخصية .. !

وأكرر، لا أدّعي فهما زائداً، ولا احتكارا للحقيقة، وأنا في ميزان العقل والثقافة أدناكم، وربما يكون ما أعرضه خاطئاً، وربما يكون صائبا، وإنما هي تجربة ونتائجها، ودرس دفعت فيه ثمناً باهظاً، أردت أن أشاركه معكم، بحثاً عن الحق، وتقصياً عن الحقيقة !

هدانا الله وإياكم إلى ما فيه الخير والرشاد.