النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

[ما وقع من الحوادث سنة 795]
السنة الرابعة من ولاية «1» الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
وفيها توفى الأديب الشاعر زين الدين أبو بكر بن عثمان بن العجمىّ فى سادس عشر ذى الحجّة، وكان عنده فضيلة، وله شعر جيّد من ذلك قوله: [البسيط]
قد عاود الحبّ قلبى بعد سلوته ... واستعذب الضّيم والتعذيب والنّصبا
وكان أقسم لا يصبو لظبى نقا ... فما رأى فى هوى غزلانه وصبا
وتوفّى الأمير زين الدين أبو يزيد بن مراد الخازن، دوادار السلطان الملك الظاهر برقوق، وأحد أمراء الطبلخاناه فى رابع جمادى الآخرة، وحضر السلطان الصلاة عليه، وأبو يزيد هذا هو الذي كان أخفى الملك الظاهر برقوقا عنده

(12/135)


فى نوبة الناصرى ومنطاش، وأخذ من داره، وكان الظاهر توجّه إليه واختفى عنده من غير مواعدة، فعرف له الملك الظاهر ذلك، فلما عاد الملك الظاهر إلى ملكه ثانيا أنعم عليه بإمرة طبلخاناه ثم استقرّ به دوادارا كبيرا بعد توجّه بطا لنيابة الشام، فدام على ذلك حتى مات فى التاريخ المذكور، ودفن بتربته «1» التى أنشأها عند دار الضيافة بالقرب من قلعة الجبل، وكان أميرا فاضلا عارفا ذكيّا له يد فى فتون، وكان يعرف بالتّركى والعجمىّ والأرمنىّ، على أنه كان فصيحا باللغة العربية.
قلت: هكذا يكون الدوادار، لا كمن لا يعرف اسمه من اسم الحمار، وكان يميل إلى مذهب الصوفية، وكان الملك الظاهر يثق إليه، ويشاوره فى أموره.
وتوفّى الوزير الصاحب شمس الدين أبو الفرج عبد الله المقسىّ، فى رابع شعبان ودفن بجامعه «2» الذي جدّده على الخليج الناصرىّ «3» بالقرب من باب البحر، وكان معدودا من رؤساء الأقباط.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير علاء «4» الدين آقبغا آص، قال المقريزى رحمه الله: كان أولا من جملة أمراء الملك الأشرف شعبان الطبلخانات، ثم نزعها منه لمّا سخط على والده، وتعطّل مدّة وعقّ أباه، وحكى عنه

(12/136)


أمور شنيعة فى عقوقه لوالده، وسافر إلى اليمن وعاد إلى القاهرة وتنقّلت به الأيام إلى أن ولى شد الدواوين بإمرة عشرة مدّة، ثم أمسك وصودر وعوقب عقوبة شديدة، وكان سيّئ السيرة، من أشرّ خلق الله المتجاهرين بالمعاصى، إلى أن توفى فى يوم الأربعاء ثامن عشرين شوّال» . انتهى كلام المقريزى.
وتوفّى الأمير الطواشى مقبل بن عبد الله الشهابى شيخ الخدّام بالحرم النبوىّ، وكان أصله من خدّام الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون وتنقّل فى الخدم إلى أن اختص بالأمير شيخون العمرى، ثم خدم السلطان حسنا [ابن قلاوون] ، ثم ولى مشيخة الخدّام بالحرم النبوى بعد وفاة الطواشى افتخار الدين ياقوت الرسولى الخازندار الناصرى، وكان مقبل ينوب عنه فى الحرم، فلمّا مات ولى مكانه.
وتوفى قاضى القضاة ناصر الدين أبو الفتح نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبى الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم الكنانى العسقلانىّ الحنبلى، قاضى قضاة الديار المصرية بها فى ليلة الأربعاء حادى عشرين شعبان، وكان مشكور السيرة محبّا للناس.
وتوفى الشيخ نجم الدين محمد بن جماعة الشافعى خطيب القدس فى يوم الأربعاء تاسع ذى القعدة [بالقاهرة ودفن خارج باب النصر «1» ] .
وتوفى الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير الكبير طشتمر الدوادار فى شهر رمضان بثغر الإسكندرية، وكان من جملة أمراء الطبلخاناه بالديار المصرية.

(12/137)


وتوفى الشيخ علاء الدين أبو الحسن على بن محمد الأقفهسى «1» الفقيه الشافعىّ فى ثامن عشرين شوّال، وكان معدودا من فقهاء الشافعية.
وتوفى علاء الدين «2» قطلوبغا بن عبد الله الأسنقجاوى، والمعروف بأبى درقة الكاشف «3» ، ولى الكشف بجهات كثيرة، ووقع له أمور مع العربان، وقتل منهم جماعة كبيرة حتى مهّد البلاد القبلية.
وتوفى الشيخ صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلى، مدرس مدرسة الملك الظاهر «4» برقوق فى شهر ربيع الآخر.
وتوفى القاضى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الضياء المناوى الشافعى، شيخ المدرسة الجاولية بالكبش «5» ، وأحد نواب الحكم بالقاهرة فى شهر ربيع الآخر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 796]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة ست وتسعين وسبعمائة. وفيها توفى الأمير سيف الدين أبرك بن عبد الله المحمودى الظاهرى شادّ الشراب خاناه السلطانية، وهو مجرّد بدمشق، وبها دفن وكان خصيصا عند أستاذه الملك الظاهر برقوق.

(12/138)


وفيها توفّى الصاحب الوزير موفّق الدين أبو الفرج الأسلمى تحت العقوبة فى يوم الاثنين [حادى «1» ] عشرين شهر ربيع الآخر، وكان أسوأ الوزراء سيرة، لأنه كان أكره على الإسلام حتى قال: كلمة الإيمان غصبا ولبس العمامة البيضاء وهو باق على دين النّصرانية، فكان «2» على الناس بذنوبهم، ولما كان على دين النصرانية وهو يباشر الحوائج خاناه كان مشكور السيرة، حتى أكره على الإسلام، فبلغ من المسلمين مبلغا عظيما من الظلم والجور، وولى فى بعض الأحيان نظر الجيش بديار مصر أيضا.
قلت: لا ألومه على ما فعله وما الذنب إلا لمولّيه: لم لا أقتدى بمن كان قبله من الملوك السالفة ووزرائهم! مثل القاضى الفاضل عبد الرحيم، وابن بنت الأعز وبنى حنّاء وغيرهم- رحمهم الله تعالى.
وتوفى الشيخ المعتقد الصالح رشيد التّكرورى الأسود فى البيمارستان المنصورى «3» فى يوم السبت ثالث عشرين جمادى الآخرة، وكان يقيم بجامع راشدة «4» خارج مدينة مصر القديمة، وهو آخر من سكنه وهو يقصد للزيارة وللناس فيه اعتقاد حسن.
وتوفى الأمير سلّام «5» (بتشديد اللام) ابن محمد سليمان بن فايد، المعروف بابن التركية أمير خفاجة «6» من الصعيد فى سابع شهر ربيع الآخر، وكان من أجلّ أمراء العرب.

(12/139)


وتوفّى الرئيس علاء الدين على بن عبد الواحد بن صغير رئيس الأطباء، وهو بمدينة حلب «1» فى التجريدة صحبة السلطان فى يوم الجمعة عاشر ذى الحجة ودفن بها، ثم نقل بعد مدّة إلى القاهرة، وكان من الأفراد فى علم الطب والملاطفة ماهرا فى صناعته، كان من عظم اطلاعه فى علم الطب يصف للموسر بأربعين ألفا ويصف الدواء فى ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس واحد.
قال المقريزى: «وكنت عنده فدخل عليه شيخ وشكا شدة السّعال، فقال له: إياك تنام بغير سراويل، فقال الشيخ: إى والله، فقال له: فلا تفعل، ثم بسراويلك! قال: فصدفت ذلك الشيخ بعد أيام فسألته، فقال لى: عملت ما قال فبرئت، قال: وكان لنا جار حدث لابنه رعاف حتى أفرط فانحلت قوى الصغير، فجاء به إلى ابن صغير هذا وشكا من كثرة الرّعاف، فقال له: شرّط أذنه، فتعجّب وتوقف فقال له ثانيا: توكّل على الله وافعل، ففعل ذلك فبرئ الصغير وذكر له أشياء كثيرة من هذا النموذج يطول شرحها.
وتوفى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى علاء الدين على ابن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله بن مجلّى بن دعجان بن خلف بن تصر بن منصور بن عبد الله بن على ابن محمد بن أبى بكر عبد الله بن [عبد الله «2» بن] عمر بن الخطاب العدوى القرشى العمرى المصرى الشافعى كاتب سر الديار المصرية ورئيسها بدمشق فى يوم الثلاثاء العشرين من شوّال مجردا صحبة السلطان الملك الظاهر برقوق ودفن بتربتهم بدمشق، وولى كتابة السر من بعده القاضى بدر الدين محمود [السّيرامىّ «3» ] الكلستانى.

(12/140)


وتوفى أخوه حمزة بن على بن فضل الله بعده بشهر، فقال فى موتهما بعض شعراء العصر: [الوافر] .
قضى البدر بن فضل الله نحبا ... ومات أخوه حمزة بعد شهر
فلا تعجب لذى الأجلين يوما ... فحمزة مات حقا بعد بدر
وكان القاضى بدر الدين المذكور إماما رئيسا فاضلا فى الإنشاء والأدب وله مشاركة جيدة فى الفقه وغيره، وكان محمود السيرة مشكور الطريقة، باشر كتابة سرّ مصر نحو سبع وعشرين سنة، على أنه انفصل فيها أولى وثانية، فالأولى بأوحد الدين عبد الواحد، والثانية بعلاء الدين الكركى وهو ثالث واحد سمّى بدر الدين من بنى فضل الله كتّاب سر دمشق، وآخر من ولى كتابة سر مصر وغيرها من بنى فضل الله، وبموته خرجت كتابه السر عن بنى فضل الله- رحمه الله تعالى- وتوفى القاضى تاج الدين محمد بن محمد بن محمد المليجى «1» المعروف بصائم الدهر محتسب القاهرة، وناظر الأحباس وخطيب مدرسة «2» السلطان حسن فى تاسع عشر صفر عن سبعين سنة وكان خيّرا دينا مشكور السيرة- رحمه الله-
وتوفى الأمير منكلى بغا بن عبد الله الشمسى الطرخانى، أحد الأمراء بديار مصر ثم نائب الكرك فى ليلة عاشوراء، وكان من أكابر أمراء مصر ولديه حشمة ورياسة.
وتوفى الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الأتابك منكلى بغا الشمسى وابن أخت الملك الأشرف شعبان بن حسين، وصهر الملك الظاهر برقوق وأحد أمراء الطبلخانات بديار مصر بها فى عاشر شعبان.

(12/141)


وتوفى الشيخ ناصر الدين محمد بن مقبل الجندى الفقيه الظاهرىّ المذهب فى يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان فاضلا وله مشاركة جيّدة فى فنون، وكان لا يتكتّم الاقتداء بمذهب أهل الظاهر ويحفّ شاربه ويرفع يديه فى كلّ خفض ورفع فى الصلاة.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير شرف الدين موسى بن [سيف الدين «1» أرقطاى بن] الأمير جمال الدين يوسف أحد أمراء العشرات بالديار المصرية فى ليلة الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة، وكان أبوه وجدّه من أمراء الألوف بالقاهرة، وكان يحبّ علم الحديث، ويواظب سماعه، وله مشاركة فى المذهب.
وتوفّيت الشيخة الصالحة المعتقدة المعروفة بالبغدادية، صاحبة الرّباط «2» بالقاهرة فى يوم السبت ثانى عشرين جمادى الآخرة، وكانت على قدم هائل من الصلاة والعبادة، وللناس فيها اعتقاد، وتقصد للزيارة.
وتوفّى السلطان أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر بن يحيى بن إبراهيم «3» ؛ فى ليلة الخميس رابع شعبان بمحلّ ملكه مدينة تونس «4» من بلاد المغرب، بعد أن حكمها أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر ونصفا، وقام من بعده على ملك تونس ابنه السلطان أبو فارس عبد العزيز وكان من أجلّ ملوك الغرب، وطالت أيام ولده عبد العزيز فى الملك حسب ما يأتى ذكره فى محلّه، إن شاء الله تعالى.

(12/142)


وتوفّى أيضا صاحب مملكة فاس «1» من بلاد الغرب- السلطان أبو العباس أحمد «2» بن أبى سالم بن إبراهيم بن أبى الحسن المرينى ملك الغرب فى المحرّم، وأقيم بعده ابنه أبو فارس عبد العزيز.
قلت: وهو يشارك المقدّم ذكره فى الاسم والكنية واسم الأب والجدّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. والله تعالى أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 797]
السنة السادسة من سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية على مصر وهى سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى «3» الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم الآمدى الدّمشقى الفقيه الحنبلى أحد أصحاب ابن تيميّة.
وتوفى الأمير علاء الدين ألطنبغا بن عبد الله الحلبى الأشرفى، وهو مسجون بقلعة حلب، وكان من أعيان المماليك الأشرفية؛ وأحد أكابر الأمراء بديار مصر.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب أبو بكر البجائى «4» المغربى، أحد من أوصى السلطان الملك الظاهر برقوقا أن يدفن تحت رجليه فى يوم السبت خامس جمادى

(12/143)


الآخرة، ودفن خارج باب النصر حيث هى التربة الظاهرية «1» الآن، وكانت جنازته مشهودة، وأخرجه السلطان وجهّزه على يد الأمير يلبغا السالمى «2» ؛ وكان للناس فيه اعتقاد لا سيّما الظاهر برقوق فإنه كان له فيه اعتقاد.
وتوفّى العلّامة صدر الدين «3» بديع بن نفيس التّبريزى رئيس الأطباء بالديار المصرية فى سادس عشر شهر ربيع الأول، وهو عمّ القاضى فتح الدين فتح الله كاتب السّر الآتى ذكره، وهو الذي كفله بعد موت جدّه نفيس؛ وكان مات والد فتح الدين معتصم بن نفيس، وفتح الله طفل صغير؛ وكان بديعا ماهرا فى علم الطبّ كثير الحفظ لمتونه، وهو صاحب التصانيف المشهورة.
وتوفّى الشريف أبو الحسن على «4» بن عجلان بن رميثة، واسم رميثة منجد بن أبى نمىّ بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى ابن عبد الله المحض بن موسى بن الحسن السّبط بن الحسن بن على بن أبى طالب المكى الحسنى، أمير مكة المشرفة، وليها ثمانى سنين ونحو ثلاثة أشهر مستقلّا بالإمارة؛ غير سنتين أو نحوهما؛ فإنه كان فيهما شريكا لعنان «5» بن مغامس بن رميثة؛ ووقع له أمور بمكة مع الأشراف ووقائع؛ وآخر الأمر توجّه أخوه الشريف حسن «6» بن عجلان إلى القاهرة يريد إمرة مكة؛ فقبض عليه السلطان

(12/144)


وحبسه؛ وبعث إلى علىّ هذا باستمراره على إمرة مكة، فاستمرّ على إمرتها إلى ان وقع بينه وبين بعض القواد، وخرج إليهم علىّ هذا، فبدره بعضهم وسايره، وهو راكب على راحلته، والشريف علىّ هذا على فرس فرمى القائد بنفسه على الشريف علىّ المذكور وضربه بجنبيّة «1» كانت معه، فوقعا جميعا على الأرض، فوثب عليه علىّ وضربه بالسيف ضربة كاد منها يهلك، وولّى علىّ راجعا إلى الحلّة، فأغرى به شخص يقال له أبو نمىّ غلام لصهره حازم بن عبد الكريم جنديا، وعتبة وحمزة وقاسما «2» ، فوثبوا عليه وقتلوه وقطّعوه وبعثوا به إلى مكة، فدفن بالمعلاة على أبيه عجلان، وكان قتله فى يوم الأربعاء سابع شوّال «3» ، وولى إمرة مكة بعده أخوه حسن بن عجلان.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد «4» بن السلطان الملك الظاهر برقوق فى يوم السبت ثالث عشرين ذى الحجة، ومولده فى مستهل شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وأمّه خوند الكبرى أرد «5» ، صاحبة قاعة العواميد «6» ، ومات بعد أن أعيا الأطباء داؤه الذي كان برجليه من أرياح الشّوكة. وبه مات، وكان إقطاعه الديوان المفرد الآن، فإنه لما مات جعله السلطان إقطاعه لمماليكه المشتروات

(12/145)


وأفرده فسمى المفرد من يومئذ، وجعل كاتبه الهيصم، وكان محمد هذا أكبر أولاد السلطان وأعظمهم، ووجد السلطان عليه وجدا عظيما.
وتوفّى قاضى القضاة ناصر الدين محمد «1» بن عبد الرحمن بن عبد الدائم بن محمد المعروف بابن بنت ميلق الشاذلى الصوفى، قاضى قضاة الديار المصرية، وهو معزول فى ليلة الاثنين تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل. وكان أصله من أشموم «2» الرمان، ولد قبل سنة ثلاثين وسبعمائة، وسمع الحديث وطلب العلم وتفقّه ووعظ دهرا، وقال الشعر، وأنشأ عدّة خطب بليغة، وجمع عدّة أجزاء فى عدّة فنون، وكان يتزيّا بزىّ الفقراء ويتصدى لعمل المواعيد، واعتقده الناس وتبرّكوا به، وخطب بعدّة جوامع وصار له أتباع وشهرة كبيرة، إلى أن طلبه الملك الظاهر برقوق للقضاء بعد عزل القاضى بدر الدين محمد بن أبى البقاء، فامتنع ثم أجاب فألبسه الملك الظاهر تشريف القضاء بيده، وأخذ طيلسانه يتبرّك به.
قال المقريزى: فداخل الناس بولايته خوف ووهم، وظنوا أنه يحمل الناس على محض الحق، وأنه يسير على طريق السلف من القضاة، لما ألفوه من تشدّقه فى وعظه، وتفخّمه فى منطقه، وإعلانه بالتبكير على الكافّة، ووقيعته فى القضاة، واشتماله على لبس الخشن المتوسط من الثياب، ومعيبه على أهل التّرف، فكان أوّل

(12/146)


ما بدأ به أن عزل قضاة مصر جميعهم من العريش «1» إلى أسوان «2» ، وبعد يومين تكلم معه الحاجّ مفلح مولى القاضى بدر الدين «3» بن فضل الله كاتم السرّ فى إعادة بعض من عزله من القضاة فأعاده، فانحل ما كان معقودا بالقلوب من مهابته، ثم قلع زيّه الذي كان يلبسه، ولبس الشاش الكبير الغالى الثمن ونحوه من الثياب، وترفّع فى مقاله وفعاله، حتى كاد يصعد الجو، وشح فى العطاء ولاذبه جماعة غير محبّبين إلى الناس. فانطلقت ألسنة الكافّة بالوقيعة فى عرضه، واختلقوا عليه ما ليس فيه، فلما قدم الأمير يلبغا الناصرىّ إلى الديار المصرية، وغلب برقوقا على المملكة وبعثه إلى سجن الكرك كان هو قاضيا يومئذ فوقّع فى حقّ الظاهر، وأساء القول فيه، فبلغه ذلك قبل ذهابه إلى الكرك فأسرّها فى نفسه، فلمّا ثار منطاش على الناصرى صرف ابن ميلق هذا عن القضاء بالصدر المساوى، بعد ما كان أخذ خطّه فى الفتاوى المكتتبة فى حقّ برقوق، فلمّا عاد برقوق إلى الملك لهج «4» بدمه فتنبّهت أعين العدا لابن ميلق هذا وحسنوا للبيد فى أحمد أمين الحكم أن يقف للسلطان ويشكو ابن ميلق المذكور بسبب ما أخذه من أموال الأيتام، وكان نحو الثلاثين ألف درهم فضة، عنها قريب من ألف وخمسمائة مثقال من الذهب، فرفع فيه قصة إلى السلطان فطلبه فجاءوا به وقد حضر القضاة فأوقف مع النقباء تحت مقعد السلطان فى الميدان فحالما مثل قائما سقط مغشيا عليه، وصار على التّراب بحضرة

(12/147)


ذلك الجمع العظيم، فتقدّم بعض من كان يلوذ به ليصلح من شأنه، فصرخ فيه السلطان وترك طويلا حتى أفاق، وادّعى عليه البيد فى فلم يلحن بحجة، وألزمه القضاة بغرامة ذلك، والقيام به للأيتام من ماله، ولم يكن المال المذكور فى ذمته، وإنما كان اقترضه وصرّه للحرمين، فلزمه غصبا ورسم عليه وسجن بالمدرسة «1» الشريفية، ليدفع المال وما زال يورده حتى أتى ذلك على غالب موجوده، ثم لزم داره وذهبت عينه، وتخلّى عنه أحبابه إلى أن مات، ودفن حارج باب النصر بتربة الصوفية، فلقد كان قبل ولايته حسنة من حسنات الدهر، ما رأيت قبله أحسن صلاة منه ولا أكثر خشوعا مع حسن منطق، وفصاحة ألفاظ، وعذوبة كلام، وبهجة زىّ، وصدع فى وعظه إذا قصّ أو خطب، إلّا أنه امتحن بالقضاء، وابتلى بما أرجو أن يكون كفارة له. انتهى كلام المقريزى باختصار.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن على بن صلاح الحريرى أحد نوّاب القضاة الحنفية، ومشايخ القرّاء بالديار المصرية، فى يوم الجمعة رابع عشرين شهر رجب.
وكان فقيها مقرئا، أقرأ ودرّس وناب فى الحكم سنين.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن عمر القليجى الحنفى مفتى دار العدل «2» ، وأحد نواب القضاة بالديار المصرية، فى ليلة الثلاثاء العشرين من شهر رجب وقد بلغ من الرياسة مبلغا عظيما، وكانت لديه فضيلة تامّة.

(12/148)


وتوفّى العلّامة شمس الدين محمد الأقصرائى الحنفى شيخ المدرسة الأيتمشية «1» بباب الوزير «2» ، فى سابع عشر جمادى الأولى، وكان إماما عالما مدرسا فقيها ذكيا حافظا، كان يلقى الدرس عند الملك الظاهر أيام إمرته، وصدرا من سلطنته، وكان خصيصا عند السلطان وله وجاهة فى الدولة، وتولّى بعد موته مشيخة الأيتمشية الشيخ سراج الدين عمر القرمى.
وتوفّى القاضى برهان الدين إبراهيم القلقشندىّ الشافعىّ موقّع الحكم، وأحد الفقهاء الشافعية فى ثالث عشرين شعبان.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوغان بن عبد الله الظاهرىّ أمير جاندار، فى سادس عشر صفر «3» ، وكان أحد أعيان المماليك الظاهرية برقوق خصيصا عند أستاذه.
وتوفّى الشيخ نور الدين أبو الحسن على الهورينىّ الفقيه الشافعى شيخ القوصونية «4» فى شهر رجب وكان فقيها فاضلا بارعا.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد السفرى الحلبى الحنفى فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الأوّل، وأصله من قرية خربتا من عمل عزاز «5» ، وكان فقيها بارعا، وله مشاركة فى فنون.

(12/149)


وتوفّى القاضى جمال الدين أبو محمد عبد الله بن فرج النّويرى المالكى، أحد نواب الحكم المالكية بالديار المصرية، وكان معدودا من فضلاء المالكية.
وتوفّى الأمير سيف الدين قرابغا بن عبد الله، والد الأمير جركتمر الخاصكى الأشرفىّ، فى ثانى شهر ربيع الأوّل وكان أحد أمراء العشرينات بالقاهرة، وكان مشكور السيرة خيّرا ديّنا.
وتوفّى الشيخ المعتقد شمس الدين محمد المقسى «1» فى يوم الأحد أول شهر رمضان، وكان يسكن بجامع «2» المقسى على الخليج، وكان يقصد للزيارة.
وتوفى الشيخ المعتقد محمد السّملوطى الصعيدى المالكى، فى ثانى عشر شهر رمضان، وكان فقيها خيّرا ديّنا، وللناس فيه اعتقاد ومحبة.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن على بن عبد العزيز المعروف بابن المطرّز فى يوم الأحد سادس جمادى الآخرة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع- مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.
[ما وقع من الحوادث سنة 798]
السنة السابعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الشيخ المقرئ الفقيه شهاب الدين أحمد بن محمد بن بيبرس الجندىّ، المعروف بابن الركن البيبرسى «3» الحنفى، وكان إماما فاضلا.

(12/150)


وتوفّى الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله الأعسر «1» فى يوم عيد الفطر، وكان من أعيان الأمراء، وتنقّل فى عدّة ولايات.
وتوفّى الأمير تمر بن عبد الله الشّهابى الحاجب أحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، وكان فقيها فاضلا، وإماما بارعا فى الفقه وفروعه، معدودا من فقهاء الحنفيّة، وكان شجاعا مقداما خرج عليه العرب العصاة فقاتلهم فجرح فى المعركة، ومات من جراحه، رحمه الله.
وتوفّى الأمير الجليل سودون بن عبد الله الفخرى الشيخونى، نائب السلطنة بالديار المصرية بها؛ فى يوم الثلاثاء خامس جمادى الآخرة «2» ، بعد ما شاخ، وكان أصله من مماليك الأمير الكبير شيخون العمرى الناصرىّ، ثم ترقّى فى الدول إلى أن ولى حجوبية الحجاب بالديار المصرية، فى دولة الملك الصالح حاجى، ثم نقله الملك الظاهر برقوق إلى نيابة السلطنة فى أوائل سلطنته، وطالت أيامه فى السعادة، وكان وقورا فى الدّول، معظّما عند الملوك، ولما كبر وشاخ أخذ يتبرّم من الإمرة والوظيفة ويستعفى، إلى أن أعفاه الملك الظاهر بعد قدومه من سفرته إلى البلاد الشامية، وكان سودون مقيما بالقاهرة، فلزم داره من صفر سنة سبع وتسعين وسبعمائة إلى أن مات فى التاريخ المقدّم ذكره، وكان أميرا خيّرا ديّنا وافر الحرمة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، ومنذ مات تجاهر الملك الظاهر برقوق بالمنكرات التى لم تكن قبل تعرف منه، وكان محبا للعلماء والفقراء، كان يدور وينزل إلى بيوت الفقراء، ويتبرّك بهم ويبذل إليهم الأموال.

(12/151)


قال قاضى القضاة العينى- رحمه الله-: وكان حصل له شىء من التّغفّل والتساهى.
قلت: كان فيه سلامة باطن مع دين وشفقة ولين جانب، حتى صار يحكى عنه أشياء فى حكوماته مختلقة عليه، كما يذكر الناس ذلك عن الخادم بهاء الدين قراقوش الصّلاحى الخصىّ وليس لذلك صحة. انتهى.
وتوفّى الأمير سيف الدين قطلوبك بن عبد الله الطّشتمرى، أحد أمراء الألوف بالديار المصرية، وكان جليل القدر وقورا من الأمراء المشايخ.
وتوفّى الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلبك «1» التّركمانى الأصل المصرى، فى يوم الجمعة سادس عشرين صفر، كان شابا جميلا حسن الهيئة، وهو ممن توفّى بغير نكبة، ولّاه الملك الظاهر برقوق أوّلا شادّ الدواوين بعد ابن آقبغا آص، ثم عزل بابن آقبغا آص، وعوّض عن شدّ الدواوين بشد الدواليب الخاصّ، عوضا عن خاله محمد بن الحسام، بحكم انتقال خاله إلى الوزارة، ثم بعد مدّة صودر، وحمّل مائة وسبعين ألف درهم، وقبل أن يغلقها أفرج عنه، ثم ولاه الملك الظاهر الوزارة عوضا عن الوزير موفّق الدين، فى يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وسبعمائة، وأنعم السلطان عليه فى يوم ولايته للوزارة بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر، ثم خلع السلطان على جماعة من الوزراء البطّالين بوظائف تحت يده تعظيما له، وصار الجميع فى خدمته، فاستقرّ الوزير سعد الدين نصر الله ابن البقرىّ ناظر الدولة، واستقرّ الوزير كريم الدين بن الغنّام فى نظر البيوت، واستقرّ الوزير علم الدين سنّ إبرة فى استيفاء الدولة، شريكا للوزير تاج الدين عبد الرحيم

(12/152)


ابن أبى شاكر، ونزل الجميع فى خدمته، وباشروا بين يديه، كما كانوا بين يدى خاله الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصّفوى، فسمّى بوزير الوزراء وباشر بحرمة وافرة إلى أن مات.
وتوفّى السيد الشريف صدر الدين مرتضى بن الشريف غياث الدين إبراهيم ابن حمزة الحسنىّ العراقىّ، نقيب الأشراف فى ليلة [السبت «1» ] ثالث شهر ربيع الآخر، ودفن على أبيه بتربة الأتابك يلبغا العمرى بالصحراء خارج القاهرة، وكان ولى نظر وقف الأشراف مع نقابة الأشراف، ونظر القدس والخليل، وكان شكلا جميلا مهيبا «2» فصيحا بالألسن الثلاثة: العربية والعجمية والتركية، وكان ديّنا خيّرا، صاحب عبادة ونسك، وكان له نظم على طريق البغاددة- رحمه الله تعالى- وهو قوله:
بحقّى عليكم بشوقى إليكم ... إذا اشتقت ليكم تعالوا ابصرونى
وتوفّى ملك الغرب وصاحب فاس السلطان أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبى العباس أحمد بن أبى سالم بن إبراهيم «3» بن أبى الحسن المرينى، وأقيم بعده على سلطنة فاس أخوه أبو عامر عبد الله.
وتوفّى الشيخ صلاح الدين محمد الشّطنوفى موقّع الحكم فى شهر رمضان، وكان إماما فى صناعته.

(12/153)


وتوفّى الشيخ نور الدين على بن عبد الله بن عبد العزيز [بن عمر بن عوض «1» ] الدّميرى المالكى شيخ القرّاء بخانقاه «2» شيخون، وأخو القاضى تاج الدين بهرام، فى ثانى عشرين شهر رمضان، وكان إماما فى القراءات مشاركا فى عدّة فنون.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن جمق بن الأمير الكبير أيتمش البجاسى فى يوم الجمعة خامس صفر، وحضر السلطان الصلاة عليه وكان أحد أمراء الطبلخانات.
وتوفّى الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جاركس الخليلى فى يوم الثلاثاء تاسع صفر، وكان محمد المذكور أيضا من أمراء الطبلخانات بالديار المصرية.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن محمد بن موسى الشنشى «3» الحنفى المعروف بالرّخ، أحد نوّاب القضاة الحنفية بمصر فى [يوم الخميس سادس «4» ] جمادى الأولى.
وتوفّى الشيخ زين الدين مقبل بن عبد الله الصّرغتمشى الفقيه الحنفى فى أول شهر رمضان بالقاهرة، وكان فقيها فاضلا مستحضرا لفروع مذهبه، وله مشاركة فى عدّة فنون.
وتوفى الأمير سيف الدين تغرى بردى بن عبد الله القردمىّ قتيلا فى محبسه، وكان من أعيان الأمراء، ووقع له أمور فى واقعة الناصرى ومنطاش مع الملك الظاهر برقوق أوّلا، ثم كان من حزب الملك الظاهر على منطاش آخرا، ودام على

(12/154)


ذلك إلى أن قبض عليه وحبس، ثم قتل فى التاريخ المذكور- رحمه الله- وكان شجاعا مقداما.
وتوفّى الشيخ الخطيب برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ المعتقد الصالح عبد الله المنوفى الفقيه المالكى فى شهر رجب، وكان أحد الفقهاء المالكية، أقرأ ودرّس وخطب بجامع «1» الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر سنين، وهو ابن العبد الصالح المشهور عبد الله المنوفى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وإصبعان.
[ما وقع من الحوادث سنة 799]
السنة الثامنة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
فيها توفّى الأمير سيف الدين إياس بن عبد الله الجرجاوى نائب طرابلس بالقاهرة بعد أن قبض عليه وألزم بحمل مال كبير، فأرسل خازنداره إلى حضور المال، فمات بعد يومين، فى يوم الجمعة ثامن عشرين صفر، وكان أولا من أمراء الألوف بالديار المصرية، ثم تنقل فى عدّة أعمال بالبلاد الشامية، حتى إنه ولى نيابة طرابلس ثلاث مرات آخرها فى سلطنة الملك الظاهر برقوق الثانية إلى أن عزله بالأمير دمرداش المحمدى الظاهرى، نائب حماة، وتوجّه إياس أتابكا بدمشق، فأقام بها يسيرا وطلب إلى القاهرة وصودر وأهين إلى أن مات بعد يومين حسب

(12/155)


ما تقدّم ذكره، وقيل: إنه لما أهين كان فى يده خاتم سمّ فمصّه فمات من وقته، وقيل غير ذلك، وكان بشع المنظر ظالما غشوما حدّ المزاج كرية المعاشرة، يرمى بعظائم، قيل: إنه قال له رجل مرة: يا وجه القمر؛ بعد أن دعا له كما هى عادة العوامّ، فضرب الرجل ضربا مؤلما، وقال: أنا أعرف بنفسى منك، وكانت بعض حظاياه ملكها الوالد «1» من بعده واستولدها، فكانت تحكى عنه عظائم من سوء خلقه وخلقه.
وتوفّى الأمير أبو بكر بن [محمد بن واضل «2» ] المعروف بابن الأحدب أمير العربان ببلاد الصعيد قتيلا.
وتوفّى الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله التمان تمرى الأمير آخور الثانى، وأحد أمراء الطبلخانات بالديار المصرية، فى رابع عشر جمادى الآخرة، وكان من قدماء الأمراء، وهو من أوّل الأمر إلى آخره كان من حزب الملك الظاهر برقوق، وكان الملك الظاهر ينادمه ويمازحه ويعجبه كلامه، وأنا أتعجّب غاية العجب من الملك الظاهر برقوق فى عدم ترقّيه، ولعلّه كان راضيا بما هو فيه- والله أعلم- وهو والد صاحبنا الناصرى محمد بن بيبرس- رحمهما الله تعالى-.
وتوفّى الأمير عمر بن عبد العزيز أمير عرب هوّارة «3» ببلاد الصعيد.
قلت: وعمر هذا هو والد بنى عمر أمراء العربان ببلاد الصعيد فى زماننا هذا، ولعله يكون أوّل من ولى منهم الإمرة.

(12/156)


وتوفّى الشيخ المسند المعمّر المعتقد زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن المبارك بن حماد المغربى المعروف بابن الشيخة «1» ، ومولده فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ومات فى تاسع عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن خارج القاهرة بعد أن حدّث سنين وصار رحلة فى زمانه.
وتوفّى الشيخ نور الدين أبو الحسن على بن أحمد بن عبد العزيز العقيلىّ (بفتح العين المهملة) المالكى إمام المالكية بالمسجد الحرام بمكة المشرفة، وأخو القاضى أبى الفضل، وكان يعرف بالفقيه علىّ النّويرىّ، فى ثانى جمادى الأولى بمكة المشرفة، وكان سمع الكثير وحدّث سنين.
وتوفى الشيخ الإمام محبّ الدين محمد بن الشيخ الإمام العلّامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام النحوىّ، فى ليلة الاثنين رابع عشرين شهر رجب بعد أن تصدّى لإقراء النحو سنين، وانتفع به جماعة الطلبة، وكان له مشاركة جيّدة فى الفقه وغيره، وكان خيّرا ديّنا.
وتوفّى قاضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر الطرابلسى الحنفىّ، قاضى قضاة الديار المصرية، فى يوم السبت ثامن عشرين ذى الحجة، وكان عفيفا دينا مشكور السّيرة، وتولى القضاء من بعده قاضى القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطىّ، بعد أن خرج البريد بطلبه، وشغر منصب القضاء بالقاهرة، مائة يوم وأحد عشر يوما، حتى حضر وولى قضاء الحنفية بديار مصر.

(12/157)


قلت: هكذا تكون ولاية قضاة الشرع الشريف بعزّة وطلب واحترام، لا كمن يسعى فيها من بيت المال والأمير الكبير إلى بيت والى القاهرة، حتى يلى بالمال والبذل من غير تستّر فى ذلك حتى إنه يعرف ولايته بالبرّطيل، كلّ أحد من المسلمين حتى النصارى واليهود، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم زين الدين ميكائيل بن حسن بن إسرائيل التّركمانى، الفقيه الحنفىّ فى ذى الحجة عن نيّف وسبعين سنة، كان فقيها فاضلا بارعا مشاركا فى فنون كثيرة من العلوم، وكان مستحضرا لمذهبه مناظرا طلق اللسان فصيحا وأقرأ ودرّس سنين.
وتوفّى القاضى جمال الدين محمود بن أحمد، وسماه بعضهم محمودا بن محمد بن على ابن عبد الله القيصري العجمىّ الحنفى، قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية، وناظر الجيوش المنصورة بها، وشيخ شيوخ خانقاه «1» شيخون، فى ليلة الأحد سابع شهر ربيع الأول، بعد أن جمع بين هذه الوظائف الثلاث التى لم تجمع لغيره، وكان من رجال الدهر حزما وعزما، ومعرفة وعقلا وفضلا، وكان قدم إلى القاهرة فى عنفوان شبيبته فقيرا مملقا، وترك بالمدرسة الصّرغتمشية «2» مدّة يخدم الفقهاء، فرأى فى منامه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول له: أنت شاهنشاه، ففسّر المنام على الشّنشى «3» ، وكان من جملة الصوفية بالصرغتمشية، وتنقّلت به الأحوال إلى أن

(12/158)


صار يقرئ المماليك بالأطباق من القلعة، وقتل الملك الأشرف شعبان وصار مخدومه طشتمر اللّفاف أتابك العساكر، فتكلّم له فى حسبة القاهرة دفعة واحدة فوليها، ونزل عند شخص فى داره حتى تعيّن له دار يسكنها، وبعث له قاضى القضاة صدر الدين المناوى بثوب حتى لبسه، لعجزه عن شراء ثوب، وهذا كان أوّل مبدأ أمره، ثم تنقّل فى الوظائف حتى كان من أمره ما كان، ولما مات خلّف موجودا كبيرا وكتبا حسنة، وخلّف ثمانية أولاد من الذكور والإناث، منهم العلّامة صدر الدين أحمد بن العجمى الآتى ذكره فى وفيات ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وتولّى قضاء الحنفيّة من بعده القاضى شمس الدين محمد الطرابلسى، ومات فى السنة حسب ما تقدّم، وولى الجيش بعده شرف الدين بن الدّمامينى «1» .
وتوفّى الأمير جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه الأستادار، فى يوم الأحد تاسع شهر رجب بخزانة «2» شمائل، بعد ما نكب وعوقب وصودر ودفن بمدرسته خارج بابى زويلة المعروفة به، وجملة ما أخذه الملك الظاهر منه من المال فى ايام مصادرته ألف ألف دينار، وأربعمائة ألف دينار، وألف ألف درهم فضة، وبضائع وغلال، وغير ذلك بما ينيف على ألف ألف درهم فضة، وتلف له بأيدى من عاقبه وحواشيه جملة كبيرة، واخفى هو أيضا أشياء كثيرة «3» يترجّى البقاء، ومن عطم ما ظهر له من المال، قالت العامة: ألان الله الحديد لداود، والذهب لمحمود، وكان أصل محمود هذا أنه كان فى مبدأ أمره فقيرا يتعانى الشدّ فى إقطاعات الجند،

(12/159)


ثم حدم عند بعض الأمراء، فصلحت حاله، وحصّل وسعى، حتى ولى شدّ الدواوين بالقاهرة، فظهر منه نجابة ويقظة، وترقّى حتى ولى الأستادارية فى دولة الملك الظاهر برقوق الأولى، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف، ونكبه الناصرى لمّا ملك مصر، وحبسه إلى أن خرج من السجن فى توبة بطا وأصحابه من الجبّ، وأعاده الملك الظاهر إلى وظيفة الأستادارية، بعد مدة فإنه كان أولا لما قدم إلى مصر ولّاه مشيرا، ثم أعاده إلى الأستادارية، ودام بها إلى أن قبض عليه الظاهر، بسعى كاتبه سعد الدين إبراهيم «1» بن غراب، وأجرى عليه العقوبة إلى أن مات.
وتوفّى الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله القبطى الأسلمى، المعروف بابن البقرى، فى ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة مخنوقا بعد عقوبة شديدة ومصادرة.
وتوفّى قاضى القضاة سرىّ الدين [أبو الخطاب «2» محمد] بن محمد قاضى قضاة الشافعية بدمشق، المعروف بابن المسلّاتى الشافعى، بالقاهرة فى يوم الخميس سابع عشرين شهر رجب، وكان فقيها عالما أفتى ودرّس وولى قضاء دمشق، وكان معدودا من علماء الشافعية.
وتوفى قاضى القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن قاضى القضاه عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عبد العزيز بن صالح بن أبى العزّ «3» وهيب بن عطاء بن جبير ابن جابر بن وهيب الحنفى الدمشقى، المعروف بابن أبى العز، وبابن الكشك قتيلا

(12/160)


بدمشق، فى مستهل ذى الحجة بعد أن لزم داره مدة، وكان إماما فقيها بارعا عالما مفتنّا، ولى قضاء دمشق استقلالا غير مرة، وحسنت سيرته، وأشخص فى سنة سبع وسبعين وسبعمائة إلى الديار المصرية، وولى بها قضاء الحنفية بعد قاضى القضاة صدر الدين محمد بن عبد الله التركمانى بعد موته، فلم تطل مدته واستعفى، وألحّ فى ذلك حتى أعفاه السلطان، وولّاه قضاء الحنفية بدمشق على عادته، فدام بها سنين، ثم صرف عنها، ولزم داره حتى مات قتيلا بدمشق- رحمه الله تعالى-
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا والله أعلم.
[ما وقع من الحوادث سنة 800]
السنة التاسعة من سلطنة الملك الظاهر برقوق «الثانية على مصر» وهى سنة ثمانمائة.
وفيها توفّى الأمير سيف الدين تنبك «1» بن عبد الله اليحياوىّ الظاهرىّ، الأمير آخور الكبير فى ليلة الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر، ونزل السلطان إلى الإسطبل ومشى فى جنازته حتى حضر الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى «2» ، ثم ركب وتوجّه أمام جنازته حتى شاهد دفنه، وأقام القرّاء على قبره أسبوعا، ووجد السلطان عليه كثيرا وبكى عند دفنه، وكان من عظماء المماليك الظاهرية، أنعم عليه السلطان بإمرة عشرة فى أوائل واقعة الناصرىّ ومنطاش، ثم رقّاه حتى ولّاه الأمير آخورية بعد الأمير

(12/161)


بكلمش العلائى، لمّا نقل إلى إمرة سلاح، فدام فى وظيفة الأمير آخورية إلى أن توفى، وتولّى الأمير آخورية بعد موته الأمير نوروز الحافظى الظاهرىّ رأس نوبة النوب.
وتوفّى السيد الشريف جمال الدين عبد الله بن عبد الكافى بن على بن عبد الله الطّباطبى نقيب الأشراف فى ليلة رابع عشرين ذى القعدة.
وتوفّى القاضى العلّامة تاج الدين أبو محمد عبد الله بن على بن عمر السّنجارى الحنفى المعروف بقاضى صور (بفتح الصاد المهملة) وصور: بليدة بين حصن كيفا «1» ، وبين ماردين «2» من ديار بكر «3» بن وائل، وكان إماما عالما مفتنّا بارعا فى الفقه والأصلين، والعربية واللغة، وأفتى ودرّس سنين بدمشق ومصر، وكان فى ابتداء أمره لما قدم القاهرة اجتاز بدمشق واستوطنها مدّة، وأخذ بها عن العلّامة علاء الدين القونوى «4» الحنفىّ، ثم قدم إلى القاهرة فأخذ عن العلّامة شمس الدين محمد الأصبهانى وغيره، حتى برع فى عدّة فنون، وأفتى ودرّس وصنّف وأشغل، ومن تآليفه كتاب «البحر الحاوى فى الفتاوى» ونظم كتاب «المختار فى الفقه» ونظم «السراجية فى الفرائض»

(12/162)


ونظم كتاب «سلوان المطاع لابن ظفر» وناب فى الحكم بالقاهرة، وولى وكالة بيت المال بدمشق، وكان من محاسن الدنيا دينا وعلما وخيرا وكرما.
وتوفّى الأمير سيف الدين قلمطاى بن عبد الله العثمانى الظاهرى الدوادار الكبير بالديار المصرية فى ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى، وحضر السلطان الملك الظاهر الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى، وحضر دفنه أيضا بتربته التى أنشأها عند الصّوّة بالقرب من باب الوزير، وبكى السلطان عليه بكاء كثيرا، وأقام القرّاء على قبره أسبوعا، وتولّى الدوادارية من بعده الأمير بيبرس ابن أخت السلطان، وكان قلمطاى من أجلّ المماليك الظاهرية، باشر الدوادارية بحرمة وافرة، ونالته السعادة وعظم فى الدولة، وهو صاحب الحاصل بالقرب من البندقيين بالقاهرة، وخلّف مالا كثيرا، وهو أيضا ممن نشّأه أستاذه الملك الظاهر برقوق فى سلطنته الثانية، رحمه الله تعالى.
وتوفّى أمين الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن على الأنصارى الحمصى الحنفى كاتب سرّ دمشق بها فى ثانى عشر ذى الحجة، ومولده فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتفقه بدمشق، وبرع فى الفقه والعربية، وشارك فى عدّة فنون مشاركة جيّدة، ومهر فى الأدب والترسّل والنظم، وتولى كتابة سرّ دمشق وباشرها بحرمة وافرة، ونالته السعادة فى مباشرته، وكان ذا شكالة حسنة، وعبارة فصيحة، وفضل وإفضال، وكان له يد فى علم الموسيقى وتأديته، وعنده ميل إلى اللهو والطرب مع حشمة ودين وكرم، ومن شعره لمّا عاد

(12/163)


من تجريدة أرزنكان «1» صحبة الأمير تنم الحسنى «2» نائب الشام، وقد ضلّ غالب العسكر فى بعض الليالى عن الماء، فنزل هو على ماء فى بعض الطريق، وقال فى ذلك:
(البسيط) .
ضلّوا عن الماء لمّا أن سروا سحرا ... قومى فظلوا حيارى يلهثون ظما
والله أكرمنى بالورد دونهم ... فقلت «يا ليت قومى يعلمون بما»
وله أيضا- سامحه الله تعالى- (الوافر) .
جفون من تأرّقها «3» دوامى ... مدامعها تفيض على الدوام
فديت عيون من حرمت عيونى ... مناها من لقا طيب المنام
وراشت «4» من لواحظها نبالا ... مراشقها شفين من السقام
إذا لاحظننى فتصيب قلبى ... على اللّحظات موفور السهام «5»
لها شفتان قد شفتا فؤادى ... ولا شفتاه إلّا للغرام
وثغر من يعيش به ارتواء ... يموت من الصّبابة وهو ظام
أدامت لى مدامته ارتشافا ... فوا سكراه من ذاك المدام
ولمّا رام بدر الأفق فخرا ... وتشبيها بما تحت اللّثام
بدت تختال عجبا عن عقود ... وتبسم عن جمان بانتظام

(12/164)


فأزرى ثغرها بالدر نقصا ... وأخجل وجهها بدر التمام
بعيشك يا كريم الخيم «1» كن لى ... معينا إن مررت على الخيام
وقل صبّ توصّل فى أوان ... له قلب تقطّع بالأوام «2»
ولبّ هام بالذكرى ودمع ... كوبل عطاء فخر الدين هامى «3»
وتوفّى القاضى نجم الدين محمد بن عمر الطّمبدى وكيل بيت المال ومحتسب القاهرة فى رابع عشرين شهر ربيع الأوّل. قال المقريزى: «وكان غاية فى الجهل»
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد أبو عبد الله محمد بن سلامة النّويرىّ المغربىّ المعروف بالكركى لطول إقامته بمدينة الكرك فى خامس عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان عند الملك الظاهر برقوق بمنزلة مكينة جدّا، كان يجلسه فوق قضاة القضاة، ولم يغيّر لبس العباءة، ولا أخذ من الملك الظاهر شيئا من المال، وكان الناس فيه على قسمين ما بين مفرط فى مدحه، وما بين مفرط فى الحطّ عليه. وتولّى الأمير يلبغا السالمى تجهيزه، وبعث السلطان مائتى دينار للقراءة على قبره مدّة أسبوع.
وتوفّى الأمير سيف الدين آق بلاط بن عبد الله الأحمدى الظاهرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة فى شهر ربيع الآخر، وكان تركىّ الجنس شجاعا.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوغاى بن عبد الله العمرى أحد أمراء العشرات بالديار المصرية، ونقيب الفقراء السّطوحيّة فى أوّل شهر ربيع الأوّل، وكان ديّنا خيّرا يحب الفقراء، ويتردّد لزيارة الصالحين.

(12/165)


وتوفّى الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد البعلبكّى الدمشقى الضرير المعروف بالبرهان الشامى فى ثامن جمادى الأولى، وكان فاضلا أديبا فقيها.
وتوفّى الأمير سولى «1» بن قراجا بن دلغادر التّركمانى، صاحب أبلستين «2» ، قتل غيلة على فراشه، وكان غير مشكور السيرة، كثير الشرور والفتن.
وتوفّى الأمير شرف الدين موسى بن قمارى أمير شكار فى ثانى عشر شهر رجب وكان من جملة أمراء العشرات.
وتوفّى الشيخ الأديب المادح أبو الفتح محمد بن الشيخ العارف على البديوىّ فى ثامن عشر جمادى الآخرة بالنّحريرية «3» ، وكان أكثر شعره مدائح.

(12/166)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا- مبلغ الزيادة. تسعة عشر ذراعا وسبعة أصابع والله تعالى أعلم.

(12/167)


[ما وقع من الحوادث سنة 801]
ذكر سلطنة الملك الناصر فرج بن برقوق الأولى على مصر
السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن السلطان الملك الظاهر أبى سعيد برقوق بن الأمير آنص، الجاركسى الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ، سلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية، والأقطار الحجازية، وهو السلطان السادس والعشرون من ملوك الترك بالديار المصرية، والثانى من الجراكسة، وأمّه أم ولد رومية تسمّى شيرين، ماتت فى سلطنته. مولده فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، قبل خلع أبيه الملك الظاهر برقوق من السلطنة، وحبسه بالكرك «1» ، فأراد أن يسمّيه «بلغاك» يعنى «تخبيط» باللغة التركية، فسمّى «فرجا» .
جلس على تخت الملك بقلعة «2» الجبل صبيحة موت أبيه يوم الجمعة النصف من شوّال سنة إحدى وثمانمائة بعهد من أبيه إليه حسب ما تقدّم ذكره، فى أواخر ترجمة أبيه، وحسب ما نذكره أيضا.
وفى سلطنته يقول الأديب المقرئ شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن حسن الأوحدى «3» : [الطويل]
مضى الظاهر السلطان أكرم مالك ... إلى ربّه يرقى إلى الخلد فى الدرج
وقالوا ستأتى شدّة بعد موته ... فأكرمهم ربّى وما جا سوى (فرج)

(12/168)


ذكر جلوسه على تخت الملك
قال الشيخ تقىّ الدين المقريزى- رحمه الله تعالى-: ولمّا كان صبيحة يوم الجمعة اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش، والأمير تغرى بردى أمير سلاح، وسائر أمراء الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقينى «1» ، فلما تكاملوا «2» بالإسطبل «3» السلطانى، أحضر فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطنة وقلّده أمور المسلمين، وأحضرت خلعة سوداء فأفيضت على فرج المذكور، ونعت بالملك الناصر، وركب بشعار السلطنة، وطلع حتى جلس على تخت الملك بالقصر السلطانى، وقبّل الأمراء كلّهم الأرض بين يديه على العادة، ولبس الخليفة تشريفا جليلا، ثم أخذ الأمراء فى تجهيز السلطان الملك الظاهر برقوق. انتهى كلام المقريزى.
قلت: ونذكر الآن فى ابتداء دولة الملك الناصر فرج اسم خليفة الوقت ولقبه، وقضاة القضاة، وأرباب الوظائف من الأمراء وغيرهم من النوّاب، بالبلاد الشامية، ليكون ذلك مقدّمة لما يأتى من تغيير الوظائف وتقلّبات الدّول. انتهى.

(12/169)


فخليفة الوقت: أمير المؤمنين المتوكّل على الله أبو عبد الله محمد العباسىّ، والقاضى الشافعى صدر الدين محمد المناوى «1» ، والقاضى الحنفى جمال الدين يوسف «2» الملطى، والقاضى المالكىّ ولىّ الدين عبد الرحمن بن خلدون «3» ، والقاضى الحنبلى برهان الدين إبراهيم «4» بن نصر الله العسقلانى، والأمير الكبير أتابك العساكر أيتمش البجاسىّ، وأمير سلاح تغرى بردى من يشبغا الظاهرىّ (أعنى الوالد) ، وأمير مجلس أرغون شاه البيدمرى الظاهرى، والأمير آخور الكبير سيّدى سودون قريب الملك الظاهر برقوق، وحاجب الحجاب فارس الأعرج الظاهرى، ورأس نوبة النّوب أرسطاى، والدوادار الكبير بيبرس ابن أخت السلطان الملك الظاهر، والخازندار يشبك الشعبانى الظاهرىّ، وهو أمير مائة ومقدّم ألف، وشادّ الشراب خاناه سودون الماردانىّ، والأستادار الأمير يلبغا الأحمدى الظاهرى المجنون، وكاتب

(12/170)


السرّ فتح الدين فتح الله التّبريزىّ، والوزير تاج الدين عبد الرزّاق بن أبى الفرج، وناظر الجيش والخاصّ معا سعد الدين إبراهيم بن غراب، ومحتسب القاهرة الشيخ تقىّ الدين أحمد المقريزىّ، ووالى القاهرة شهاب الدين أحمد بن الزين، بالبلاد الحجازية والشامية، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان الحسنىّ، وأمير المدينة النبوية الشريف ثابت بن نعير الحسينىّ، ونائب الشام الأمير تنبك الحسنى المعروف بتنم الظاهرى، ونائب حلب آقبغا الجمالى الظاهرى، المعروف بالأطروش ونائب طرابلس يونس بلطا الظاهرى، ونائب حماة دمرداش المحمدى الظاهرى، ونائب صفد ألطنبغا العثمانى الظاهرى، ونائب غزّة ألطنبغا الحاجب الظاهرى، ونائب الكرك سودون الشمسىّ الظاهرى المعروف بالظريف، وعدّة نوّاب أخر بقلاع الساحل وغيرها يطول الشرح فى ذكرهم.
ولمّا تم أمر الملك الناصر فرج فى الملك، بعد أن دفن والده، وصار الأتابك أيتمش مدبّر ملكه، أراد أيتمش أن يطلع إلى باب السلسلة «1» ويسكن بالإسطبل السلطانىّ، فمنعه من ذلك الأمير سودون الأمير آخور الكبير، قريب الملك الظاهر، وردّ ما بعته الأمير الكبير أيتمش من القماش، فاستدعى سودون إلى حضرة السلطان فامتنع، فأمسك أيتمش عن الكلام فى ذلك، وتكلّم فيما يعود نفعه، فأمر فكتب إلى سائر الأقطار بالعزاء فى الملك الظاهر برقوق، والهناء بسلطنة ولده الملك الناصر فرج، وكتب تقليد الشريف حسن بن عجلان بإمرة مكّة، وكان بالقاهرة، وكتب إلى مكّة وبها الأمير بيسق الشيخى والى المدينة النبوية، وتوجّه بذلك بعض الخاصكية، وكتب إلى الأمير نعير بن حيّار بإمرة آل فضل على عادته،

(12/171)


وعزل الأمير شمس الدين محمد بن عنقاء بن مهنّا، وعرف بموت الملك الظاهر، وبسلطنة الملك الناصر فرج؛ وحمل إليه التشريف والتقليد على يد الأمير أسنبغا الدوادار، وعيّن الأمير سودون الطّيار الأمير آخور بالكتب والخلع إلى نائب الشام الأمير تنم الحسنى، وعيّن يلبغا الناصرى رأس نوبة إلى الأمير آقبغا الجمالى نائب حلب، وعيّن الأمير تغرى بردى قرا إلى الأمير يونس بلطا نائب طرابلس، وعيّن الأمير يشبك إلى الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد، وعيّن الأمير شاهين كنك إلى الأمير سودون الظريف نائب الكرك، وعلى يد كل من هؤلاء كتاب يتضمّن العزاء والهناء، وأن يحلّف كلّ نائب أمراء بلده للملك الناصر فرج على العادة، وقرر الأمير الكبير أيتمش مع أرباب الدولة إبقاء الأمور على ما هى عليه.
ثم كلّم الوزير والأستادار فى الكفّ عن الظلم وتجهيز الجامكيّة «1» والعليق برسم لمماليك السلطانية.
وفى يوم الاثنين ثامن عشر شوّال خرج ركب المحمل إلى البركة «2» صحبة أمير الحج الأمير شيخ المحمودىّ الظاهرىّ، «أعنى الملك المؤيد» ، وأمير الركب الأوّل الأمير الطواشى بهادر مقدّم المماليك السلطانية.
وفى اليوم المذكور اجتمع الأمراء بالقلعة فى الخدمة السلطانية على عادتهم، وطلبوا الأمير سودون أمير آخور، فامتنع عن الحضور، فبعث الأمراء إليه ثانيا فامتنع، فكرروا الإرسال إليه ثلاث مرات إلى أن حضر فكلّموه فى النزول من

(12/172)


الإسطبل فلم يجبهم إلى ذلك، فتخيّلوا منه واتّهموه بأنه يريد إثارة فتنة، فقبضوا عليه وعلى الأمير علىّ بن إينال اليوسفى، وأخرجوا ما كان له بالإسطبل من خيول وقماش ونحو ذلك، وسكن الأتابك أيتمش مكانه بالإسطبل من باب السلسلة، وأنزل سودون وعلى بن إينال فى الحديد إلى الحرّاقة «1» وجهزا إلى سجن «2» الاسكندرية ثم نودى بالقاهرة ومصر بخروج طائفة العجم من الديار المصرية، وهدّد من تأخّر بعد ثلاثة أيام بالقتل.
ثم خلع على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار باستقراره (لا لا) السلطان الملك الناصر فرج، ومعه الأمير قطلوبغا الكركى (لا لا) أيضا.
ولمّا كان يوم حادى عشرين شوّال جلس السلطان الملك الناصر فرج بدار العدل، «أعنى بالإيوان من قلعة الجبل» على عادة الملوك، وخلع على الأمير الكبير أيتمش، وعلى الوالد الأمير تغرى بردى وهو أمير سلاح، وعلى أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس؛ وعلى بيبرس الدوادار، وأرسطاى رأس نوبة النّوب، وفارس حاجب الحجّاب، وتمربغا المنجكى الحاجب الثانى، وأحد مقدّمى الألوف، وعلى يلبغا المجنون الأستادار، وعلى جميع أرباب الدولة.
ثم قام السلطان من دار العدل ودخل إلى القصر، وجلس القضاة بجامع القلعة حتى يخلع عليهم، فعند ما تكامل الأمراء وأرباب الدولة بالقصر، أغلق الأمراء الخاصكية باب القصر، وكان رئيسهم يوم ذاك سودون طاز، وسودون من زادة،

(12/173)


وآقباى «1» رأس نوبة، وجاركس القاسمى المصارع، ثم سلّوا سيوفهم بمن معهم، وهجموا على الأمراء وقبضوا على أرسطاى رأس نوبة النّوب، وتمراز وتمربغا المنجكى، وطغنجى وبلاط السعدى، وطولو رأس نوبة، وفارس الحاجب، وفرّ مبارك شاه وطبج، فأدركا، وقبض عليهما أيضا، وبلغ ذلك يلبغا المجنون الأستادار وكان خارج القصر، فخلع خلعته وسلّ سيفه، ونزل من القلعة إلى داره.
ثم أحضر الخاصكيّة الأمراء المقبوض عليهم إلى عند «2» الأمير الكبير أيتمش وقد بهت وأسكت، وقيّدوا أرسطاى رأس نوبة النّوب، وتمراز وتمربغا المنجكى؛ وطغنجى أحد أمراء الطبلخانات، وأطلقوا من عداهم، واستدعوا يلبغا المجنون الأستادار، فلمّا حضر قبض عليه أيضا وقيّد وأضيف إلى الأمراء المقبوض عليهم وأنزل الجميع من يومهم إلى الحرّاقة، وتوجّهوا إلى سجن الإسكندرية، ما خلا يلبغا المجنون فإنه فى يوم السبت ثالث عشرينه عصر يلبغا المجنون ليحضر المال، ثم أسلموه لسعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش والخاصّ ليحاسبه، فنزل به إلى داره، وسألوا يلبغا السالمىّ بوظيفته الأستادارية فامتنع، فعرضوها على ناصر الدين محمد بن سقر وابن قطينة فلم يوافقا، فخلع على الأمير مبارك شاه باستقراره أستادارا عوضا عن يلبغا المجنون.
وفيه أنفق على المماليك السلطانية نفقة سلطنة الملك الناصر، وتولّى الإنفاق عليهم يلبغا السالمى، وفرّقت بحضرة السلطان والأمراء، فأعطى كلّ مملوك من

(12/174)


من أرباب الخدم الجوانية والمشتروات ستين دينارا؛ صرف كل دينار ثلاثون درهما.
وفى يوم الاثنين خامس عشرينه، تأخّر سائر أمراء الألوف عن طلوع الخدمة السلطانية خوفا من الخاصكيّة، فإن الأمور صارت معذوقة «1» بهم، فبعث الخاصكية إلى الأمراء بالحضور فأبوا ذلك، فنزل الخاصكيّة إلى الإسطبل فى خدمة الأمير الكبير أيتمش، واستدعوا الأمراء من منازلهم فحضروا، وكثر الكلام بينهم حتى اتفقوا جميعا، وتحالفوا على طاعة الأمير الكبير أيتمش، والملك الناصر، وحلف لهم أيضا أيتمش، ثم حلف سائر المماليك والخاصكيّة، وتولّى تحليفهم يلبغا السالمىّ، وخلع على سودون الماردانى باستقراره رأس نوبة النّوب عوضا عن أرسطاى المقبوض عليه قبل تاريخه، وعلى قطلوبغا الحسنىّ الكركى باستقراره شادّ الشراب خاناه، عوضا عن سودون الماردانى، وأنعم على الأمير قراكسك بإمرة مائة، وتقدمة ألف كانت مؤخّرة.
ثم فى يوم الثلاثاء سادس عشرين شوّال خلع على الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن أبى الفرج باستقراره فى وظيفة الأستادارية مضافا للوزر عوضا عن مبارك شاه بحكم استعفاء مبارك شاه.
وفيه كتب مرسوم سلطانىّ باستقرار قرا يوسف بن قرا محمد صاحب تبريز «2» فى نيابة الرّهاء «3» على عادته، وباستقرار دمشق خجا فى نيابة جعبر «4» .

(12/175)


وفيه ورد الخبر بأن أبا يزيد بن عثمان ملك الروم تحرّك للمشى على البلاد الشامية، وفى ثامن عشرين شوّال، ورد الخبر بأن الأمير تنم الحسنى نائب الشام أخذ قلعة دمشق، وكان خبر أخذه لقلعة دمشق أنّ تنم كان بالمرج من غوطة دمشق، فقدم عليه الخبر بموت الملك الظاهر برقوق، فركب وقصد دمشق ولم يشعر به الناس، فى ليلة الأربعاء العشرين من شوّال، حتى حضر إلى دار السعادة «1» ثلث الليل، فلما أصبح استدعى الأمير جمال الدين يوسف الهيدبانىّ نائب قلعة دمشق، بحجة أن الملك الظاهر برقوقا طلبه إلى الديار المصرية، فعندما نزل إليه أمسكه وبعث من تسلّم قلعة دمشق، فلم يعلم أحد ما قصده تم المذكور إلى أذان الظهر، فوصل فارس دوادار تنم من مصر، وأخبر بموت الملك الظاهر، وسلطنة ولده الملك الناصر فرج، وأخبر أيضا بأن سودون الطيّار قادم بالخلعه إلى الأمير تنم، فخرج الأمير تنم إلى لقائه، ولبس الخلعة، وباس الأرض خارج مدينة دمشق، ثم عاد إلى دار السعادة وقد اجتمع بها القضاة والأعيان، وقرئ عليهم كتاب السلطان الملك الناصر فرج، فأجابوا بالسمع والطاعة، ونودى بدمشق بالأمان والزينة، فزيّنت البلد، ودقّت البشائر، وسرّ الناس بذلك، وأخذ الأمير تنم يقول بأنّ السلطان صغير، وكلّ ما يصدر ليس هو عنه، وإنما هو عن الأمراء، وأنا وصىّ السلطان لا يعمل أحد شيئا إلا بمراجعتى ونحو هذا، فاضطرب الناس بدمشق، وبلغ ذلك نائب حمص، فأخذ قلعتها، وأخذ أيضا نائب حماة قلعة حماة، كلّ ذلك قبل تكملة خمسة عشر يوما من سلطنة الملك الناصر فرج.

(12/176)


ثم فى أوّل ذى القعدة ركب الأمير طغاى تمر مقدّم البريدية من مصر على البريد إلى البلاد الشامية، ومعه ملطّفات لأمراء الورسق «1» والأمراء الأوجقيّة «2» ، ومطلق لنواب الممالك والقلاع، ومثال لأحمد بن رمضان نائب أذنة «3» ولأمراء التّركمان، ولنائب حلب، ولنائب سيس وصحبته أقبية مطرّزة بفرو؛ خمس عشرة قطعة، وفوقانيات حرير بطرز زركش؛ أربع وعشرون قطعة، وتشاريف عدّة كبيرة.
وفى ثالث ذى القعدة فرغ تحليف المماليك السلطانية للملك الناصر فرج.
وفيه أنعم على الأمير إينال باى من قجماس بإمرة مائة وتقدمة ألف، وهو خبز أرسطاى رأس نوبة النّوب، وعلى سودون من على بك المعروف بطاز، بتقدمة الأمير سودون أمير آخور المقبوض عليه، وعلى آقباى من حسين شاه، بتقدمة ألف أيضا عوضا عن تمربغا المنجكىّ، وأنعم على الأمير يعقوب شاه الخازندار بإمرة طبلخاناه زيادة على طبلخاناته، فصارت تقدمته بثمانين فارسا «أعنى إمرة ثمانين» ، وأنعم على كل من قرابغا الأسنبغاوى وينتمر المحمدى وآقباى الإينالى بإمرة طبلخاناه، وعلى جرباش الشيخى بإقطاع يلبغا المجنون، إمرة خمسين فارسا وعلى آقبغا المحمودى بإمرة طبلخاناه أيضا وعلى كلّ من تمر الساقى وجركس القاسمىّ المصارع، وإينال حطب، وكمشبغا الجمالى، وألطنبغا الخليلىّ، وكزل العجمىّ البجمقدار، وقانى باى العلائى، وجكم من عوض، وصوماى الحسنى بإمرة عشرة.

(12/177)


وفى سابعه خلع على سودون الماردانى باستقراره رأس نوبة النّوب، وكانت عيّنت له قبل ذلك، غير أنه كان متوعّكا، وعلى يعقوب شاه الظاهرى باستقراره حاجبا ثانيا، عوضا عن تمربغا المنجكى بإمرة ثمانين، وعلى كلّ من سودون من زاده، وتنكزبغا الحططىّ، وبشباى وجكم من عوض، وآقبغا المحمودى الأشقر واستقروا رءوس نوب صغارا.
وفى تاسعه خلع على قرابغا الأسنبغاوى ومقبل الظاهرى، واستقروا حجّابا، فصارت الحجّاب ستة بالديار المصرية، ورءوس نوب نحو العشرة، وهذا شىء لم يكن قبل ذلك.
ثم حضر الأمير دقماق المحمّدى معزولا عن نيابة ملطية بتقادم كثيرة.
وفى ثانى عشره خلع على الأمير جرباش الشيخى وتمان تمر، باستقرارهما رءوس نوب أيضا، فزادت عدّة رءوس النّوب على العشرة، وخلع على كزل المحمدى العجمى البجمقدار باستقراره أستادار الصحبة، عوضا عن قرابغا الأسنبغاوى، المنتقل إلى الحجوبية، وخلع على كل من الطواشيين: شاهين الحسنى الأشرفى، وعبد اللطيف الأشرفى باستقرارهما (لالا) السلطان.
وفى سابع عشره استدعى الأمير الكبير الشيخ سراج الدين عمر البلقينىّ والقضاة وأعيان الفقهاء من كل مذهب، فحضر الجميع عند الأمير الكبير بالإسطبل، وقد حضر الأمراء والخاصكيّة بسبب الأموال التى خلّفها السلطان الملك الظاهر برقوق، هل تقسّم فى ورثته؟ أو يكون ذلك فى بيت مال المسلمين؟ فوقع كلام كثير آخره أن تفرّق فى ورثته من السدس، وما بقى فلبيت المال.
وفيه استقرّ الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس فى نظر خانقاه شيخون عوضا عن يلبغا السالمى.

(12/178)


وفى حادى عشرين ذى القعدة، استقر الأمير سودون الطيّار أمير آخورا كبيرا، عوضا عن سودون قريب السلطان، بعد أن شغرت عدّة أيام.
وفى ثالث عشرينه خلع على أستادار الوالد؛ شهاب الدين أحمد بن عمر المعروف بابن قطينة باستقراره وزيرا، عوضا عن تاج الدين بن أبى الفرج.
[وخلع أيضا على يلبغا السالمى الظاهرى باستقراره أستادارا عوضا عن ابن أبى الفرج «1» ] المذكور، وقبض على تاج الدين بن أبى الفرج وصودر، فلم تطل مدة ابن قطينة فى الوزر، وعزل بفخر الدين ماجد بن غراب فى رابع ذى الحجة وعاد إلى أستادارية الوالد على عادته.
ثم قدم الخبر فى ثامن عشر ذى الحجة بأن ابن عثمان أخذ الأبلستين «2» وملطية «3» ، وعزم على المسير إلى البلاد الشامية، فعمل الأمراء مشورة فى أمره، واتفق الحال على المسير إلى قتاله، وتفرّقوا فأنكر المماليك السلطانية ذلك، وقالوا هذه حيلة علينا حتى نخرج من القاهرة، وعيّنوا سودون الطيّار الأمير آخور لكشف هذا الخبر، وحضر البريد من دمشق بأن علاء الدين بن الطبلاوى ترك لبس الأمراء، وتزيّا بزىّ الفقراء، وامتنع من الحضور إلى مصر، وكان طلب إليها، وأن تنم نائب الشام قال: هذا رجل فقير قد قنع بالفقر، اتركوه.

(12/179)


وفى يوم ثامن عشر المذكور خرج سودون الطيّار لكشف الأخبار، فدخل دمشق فى العشرين منه، وهذا شىء من وراء العقل، كونه يصل من مصر إلى الشام فى يومين.
وفى أواخر ذى الحجة قدم الخبر بأن تنم نائب الشام خرج عن الطاعة، وقبض جانبك اليحياوى الظاهرى، الذي كان ولى نيابة قلعة دمشق، ولم تسلّم له قلعة دمشق، وأنه أرسل إلى نائب الصّبيبة «1» . فأفرج عن آقبغا اللكّاش، وألجيبغا الحاجب، وخضر الكريمى، واستدعاهم إلى دمشق، فقدموا عليه، فلم يتحرّك بسبب ذلك ساكن بمصر لاختلاف الكلمة.
[ما وقع من الحوادث سنة 802]
ثم فى يوم الثلاثاء حادى عشرين المحرم سنة اثنتين وثمانمائة، ركب السلطان الملك الناصر من قلعة الجبل، ومعه الأمير الكبير أيتمش البجاسى، والوالد أمير سلاح، وسائر الأمراء، ونزل إلى تربة أبيه «2» بالصحراء وزاره، ثم عاد بعد أن شقّ القاهرة، وطلع إلى القلعة، وهذا أوّل ركوب الملك الناصر.
ثم فى هذه الأيام تزايد الاختلاف بين أكابر الأمراء، وبين الأمراء الخاصّكية واشتدّت الوحشة بين الطائفتين، واتّفق سودون طاز، وسودون من زاده، وجركس القاسمى المصارع، وآقباى من حسين شاه، وبشباى وغيرهم، وانضموا على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار، وصاروا فى عصبة قوية وشوكة شديدة، واستمالوا جماعة كبيرة من خجداشيّتهم «3» الظاهرية، الذين بالأطباق من القلعة،

(12/180)


وتأكّدت الفتنة، وشرعت كلّ من الطائفتين تدبّر على الأخرى، فأخذ الأمراء الخاصكيّة يتخوّفون من تنم نائب الشام، فأرسلوا بتفويض أمور البلاد الشامية إليه، فلما وصل ذلك إلى تنم على يد مملوكه سونجبغا، فى ثالث عشر المحرم، وقرئ المرسوم الشريف الذي على يده بدار السعادة، وفيه أنه يعزل من شاء، ويولّى من شاء، ويطلق من شاء من المسجونين، فأرسل أطلق الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى المعروف بقراسقل المعزول عن نيابة حلب، ثم عن أتابكيّة دمشق، من سجن قلعة دمشق فى ليلة الجمعة رابع عشرين المحرم، وأطلق أيضا الأمير أزدمر أخا إينال اليوسفى، ومحمد بن إينال اليوسفى، من سجن طرابلس وأحضرهما إلى دمشق، ثم بعث إلى نوّاب البلاد الشامية يدعوهم إلى طاعته، وإلى القيام معه فأجابه الأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب، والأمير يونس بلطبا نائب طرابلس، والأمير ألطنبغا العثمانى الظاهرى نائب صفد، وامتنع من إجابته الأمير دمرداش المحمدى الظاهرى، نائب حماة، ثم بعث تنم إلى طرابلس بتجهيز شينى «1» فى البحر إلى ثغردمياط، ليحمل فيه الأمير نوروز الحافظى، وغيره من الأمراء الذين بثغردمياط، فبادر ناصر الدين محمد بن بهادر المؤمنى، فتسلم برج الأمير أيتمش بطرابلس، وركب البحر إلى دمياط، وقدم إلى القاهرة، وأعلم القوم بما قصده تنم، فكتب على يده عدّة ملطّفات إلى الأمير قرمش حاجب حجّاب طرابلس، وإلى القضاة والأعيان بأن قرمش يركب على يونس بلطا نائب طرابلس ويقتله، ويلى نيابة طرابلس عوضه، فاتفق أنّ يونس المذكور قبض على قرمش الحاجب وقتله قبل وصول ابن بهادر إلى طرابلس، ثم إن تنم استدعى الأمير علاء الدين علىّ بن الطبلاوى المقدّم ذكره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق لمّا

(12/181)


صودر وحبس بخزانة «1» شمائل، ثم نفى وخلع عليه، وأقامه متحدّثا فى أمور الدولة:
كما كان فى ديار مصر، فأخذ ابن الطبلاوى هذا فى الإفحاش فى أمر الشاميّين، وطرح عليهم السّكّر الواصل من الغور «2» ، بحيث إنه طرح ذلك على الناس، حتى على الفقهاء ونقباء القضاة، فتنكّرت القلوب عليه، وقدم الخبر بهذا كلّه إلى الديار المصرية، فتحقّق عند ذلك أعيان الدولة عصيان تنم وصرّح الأمراء الخاصكية بأن الأمير الكبير أيتمش، والوالد وجماعة من أكابر الأمراء بالديار المصرية، قد وافقوا تنم على ذلك، وكاتبوه بالخروج، ولم يكن لذلك صحّة، فأخذ الأمراء الخاصّكية وكبيرهم يشبك الشعبانىّ الخازندار، فى التدبير على أيتمش ورفقته، واتفقوا على أمر يكون فيه زوال أيتمش وأصحابه، وعلّموا السلطان الملك الناصر فرجا يقول يقوله إلى أيتمش.
فلمّا كان يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثمانمائة وجميع الأمراء بالخدمة السلطانية، ابتدأ السلطان الملك الناصر بالكلام مع الأمير الكبير أيتمش، وقال له: يا عمّ أنا قد أدركت وبلغت الحلم، وأريد أن أرشد فقال له أيتمش: السمع والطاعة، واتّفق مع الأمراء الخاصكيّة على ترشيد السلطان وصوّب ذلك جميع الأمراء؛ إلّا الوالد وفارس الحاجب، وخالفا الجميع، فأخذ الأتابك أيتمش يحسّن ذلك للوالد ولفارس، حتى أذعنا على رغمها لترشيد السلطان وأنهم يمتثلون بعد ترشيده سائر ما يرسم به، وطلب فى الحال الخليفة والقضاة والسراج البلقينىّ ومفتى دار العدل فحضروا، وقام سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش والخاصّ، وادّعى على الأمير الكبير أيتمش، بأن السلطان قد بلغ رشده

(12/182)


وشهد عدّة من الأمراء الخاصكيّة بذلك، ولم يكن لذلك صحّة فحكم القضاة بعد البيّنة برشد السلطان، وخلع على الخليفة وقضاة القضاة وعلى الأمير الكبير أيتمش وانفضّ الموكب، ونزل الأمير الكبير إلى داره التى كان يسكن بها بالقرب من باب الوزير «1» ومعه جميع الأمراء، فلما سار أيتمش حتى صار تحت الطبلخاناه السلطانية، وطلب أن يسلّم على الأمراء، والتفت برأس فرسه، وقد وقف له جميع الأمراء لردّ سلامه، وقبل أن يسلّم عليهم، قال له الوالد: إلى أين يتوجّه الأمير الكبير من هنا؟ قال الأمير أيتمش: إلى بيتى! أو ما علمت بما وقع عليه الاتفاق من ترشيد السلطان، وأنه يستبدّ بالأمور، وأنزل أنا من باب السّلسلة إلى دارى! فقال الوالد: نعم، وقع ذلك، غير أنه بنزولك تسكن الفتنة، اطلع إلى باب السلسلة، وامكث به اليوم، وخذ فى نقل قماشك شيئا بعد شىء إلى الليل حتى نبرم أمرا نفعله فى هذه الليلة، فإذا أصبحت فانزل إلى دارك، فقال أيتمش: يا ولدى! ليس ذلك مصلحة ويقيم- من له غرض فى إثارة الفتنة- الحجّة علينا، فألح عليه الوالد حتى سمع كلامه كلّ أحد، وأيتمش لا يذعن إليه، وأبى إلّا النزول إلى داره، ثم سلّم عليهم، والتفت برأس فرسه، فقال الوالد: أخربت بيتك وبيوتنا بسوء تدبيرك، وعاد الوالد إلى جهة داره، بخط الصليبة «2» عند حمام «3» الفارقانى، ومعه سائر الأمراء،

(12/183)


فكلّمهم فى الطريق وقال: هؤلاء الأجلاب لابدّ لهم معنا من رأس، فإن كان ولابد يكون ذلك فى الإسطبل السلطانى معنا، وندب الأمراء إلى أن يتوجّهوا إلى أيتمش فى ذلك، فقالوا: قد فات الأمر، ونزل إلى داره، ثم توجّه كلّ واحد إلى منزله، وفى الحال دقّت البشائر لترشيد السلطان، وزيّنت القاهرة، وافترق العسكر فرقتين: فرقة مع الأمير الكبير أيتمش البجاسى، وهم جميع أكابر الأمراء والمماليك القرانيص، وفرقة مع الأمير يشبك الشعبانى الخازندار، وهم الأمراء الخاصّكية ومماليك الأطباق، وقويت شوكة الأمير يشبك بعجز أيتمش وعدم أهليته فى القيام بتدبير الأمور من يوم مات الملك الظاهر برقوق، واستمر ذلك إلى ليلة عاشر شهر ربيع الأول المذكور، وقد ندم الأمير الكبير أيتمش على نزوله من باب السلسلة، حيث لا ينفعه الندم، ولم يجد بدّا من الركوب، واتّفق مع الأمراء على الركوب
ذكر الواقعة بين الأتابك أيتمش وبين يشبك وغيره
ولما كان ليلة الاثنين عاشر شهر وبيع الأول، اتفق الأمراء الأكابر مع الأمير الكبير أيتمش، ولبسوا الجميع آلة الحرب، واجتمعوا على الأتابك أيتمش بداره بخط باب الوزير، بعد نزول أيتمش من باب السلسلة بثلاثة أيام، وأخذ بعض رفقته من أكابر الأمراء يلومه على نزوله من الإسطبل السلطانى، وعلى عدم ميله لكلام الأمير تغرى بردى (أعنى الوالد) فى النزول، فقال: هكذا قدّر، وكان سبب ركوب أيتمش بعد نزوله من الإسطبل أنه لمّا وقع ترشيد السلطان، واتفقوا معه على أن ينزل إلى داره ظنّ أيتمش أن بنزوله تسكن الفتنة، وتطمئن الخواطر، ويصير هو على عادته رأس مشورة، ولا يعمل شىء إلّا بعد مشاورته،

(12/184)


فتمشى الأحوال بذلك على أحسن وجه؛ ولم يدر أن القصد كان بنزوله من باب السلسلة حتى يضعف أمره؛ وتصير القلعة بأسرها فى أيدى الجماعة؛ ويستبدّوا بالأمر من غير مشارك؛ ثم يقبضوا على واحد واحد، حتى يصفو لهم الوقت؛ وفطن الوالد لذلك فعرّف أيتمش بالمقصود وقال له: إنّه لا بدّ لهؤلاء الجماعة من إثارة فتنة فإن كان ولا بدّ فيكون ذلك ونحن ملّاك باب السلسلة؛ وهى شطر القلعة، فأبى إلّا ما أراد الله تعالى، ونزل إلى داره وأقام يومه، ثم أصبح وقد تحقّق ما قاله الوالد وغيره، وعلم أنه متى ظفروا به وبالأمراء رفقته قبضوا عليهم، فلم يجد بدّا من الركوب وركب إلى الوالد فى ظهر نهاره وترضاه، حتى وافقه، فعند ذلك وافقه الجميع، واتّفق رأيهم على الركوب فى ليلة الاثنين المذكورة، فركبوا بعد صلاة العشاء الأخيرة، وهم جماعة كثيرة من أمراء الألوف والطبلخانات والعشرات والمماليك السلطانية القرانيص، فالذى كان معه من مقدمى الألوف: الأمير تغرى بردى من يشبغا أمير سلاح (أغنى عن الوالد) ، والأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، وفارس حاجب الحجاب، ويعقوب شاه الحاجب الثانى، ومن أمراء الطبلخانات ألطنبغا شادى، وشادى خجا العثمانى، وتغرى بردى الجلبانى، وبكتمر الناصرىّ المعروف بجلّق، وتنكزبغا الحططى، وآقبغا المحمودى الأشقر، وعيسى فلان والى القاهرة، ومن العشرينات أسندمر الإسعردىّ، ومنكلى العثمانى، ويلبغا من خجا الظريف، ومن العشرات خضر بن عمر بن بكتمر الساقى، وخليل بن قرطاى شادّ العمائر، وعلى بلاط الفخرى، وبيرم العلائى، وأسنبغا المحمودى، ومحمد بن يونس النّوروزى، وألجيبغا السلطانى وتمان تمر الإشقتمرى، وتغرى بردى البيدمرى، وأرغون السّيفىّ، ويلبغا المحمودى، وباى خجا الحسنىّ، وأحمد بن أرغون شاه الأشرفى، ومقبل الحاجب، ومحمد بن على بن كلبك نقيب الجيش وخير بك من

(12/185)


حسن شاه: وجلبّان العثمانى، وكزل العلائى ويدى «1» شاه العثمانى، وكمشبغا الجمالى، وألطنبغا الخليلى، وألطنبغا الحسنى، ونحو الألف مملوك من أعيان المماليك السلطانية، وخرج أيتمش إلى داره ملبسا هو ومماليكه، وكانوا نحو الألف مملوك، وصحبته الأمراء المذكورون، وعبّى عساكره، وأوقف طلبه «2» ومماليكه بمن انضاف إليهم من أمراء الطبلخانات والعشرات، والمماليك السلطانية بالصّوّة «3» ، تجاه باب المدرّج أحد أبواب قلعة الجبل، وأصعد جماعة أخر من حواشيه إلى سطح المدرسة الأشرفية التى مكانها الآن بيمارستان الملك المؤيد شيخ»
، ليرموا على من بالطبلخاناة السلطانية ويحموا ظهور مماليكه، ولم يخرج هو من بيته وكان الذي رتب العساكر الوالد، ووقف الأمير فارس حاجب الحجّاب ومعه جماعة من أمراء الطبلخانات والعشرات، فى رأس الشارع الملاصق لمدرسة السلطان «5» حسن، المتوصّل منه إلى سوق القبو، ليقاتل من يخرج من باب السلسلة من السلطانية، ووقف الوالد ومعه الأمير أرغون شاه أمير مجلس، برأس سويقة منعم من خط الصليبة، تجاه القصر السلطانى وتفرقت الأمراء والمماليك ثلاث فرق: كل فرقة إلى جهة من الأمراء المذكورين مع من انضاف إليهم من المماليك البطالة والزّعر وغيرهم، وأخذ كلّ واحد من هؤلاء الأمراء يعبّئ طلبه وعساكره، على حسب ما يختار، كلّ ذلك فى الليل.

(12/186)


وأمّا أهل القلعة فإن الأمير يشبك الشعبانىّ الخازندار لمّا سمع بذلك ركب إلى القلعة هو وبيبرس الدّوادار وطلعا إلى السلطان، وقد اجتمع غالب الأمراء والخاصكيّة من الظاهرية عند السلطان، وطلب يشبك فى الحال مماليك الأطباق، وأمرهم يلبس السلاح ولبس هو وجميع الأمراء، وحرّضهم على قتال أيتمش ورفقته، وخوّفهم عاقبة الأمر، وقال لهم: هؤلاء وإن كانوا خشداشيتّنا، فقد صاروا الآن أجانب، وتركوا خبز الملك الظاهر برقوق، وخرجوا على ولده، وأرادوا يسلطتون أيتمش ونحن نقاتل مع ابن أستاذنا حتى نموت، فأجابه جميع المماليك الجلبان وظنوا أن مقالته حقيقية، وفى الحال دقّت الكوسات الحربية بالقلعة ولبس سائر الأمراء الذين بالقلعة، وهم: بيبرس الدوادار ابن أخت الملك الظاهر برقوق، ويشبك الشعبانى الخازندار المقدّم ذكره، وسودون الماردانى رأس نوبة النّوب، وسودون من على بك طاز، وإينال باى بن قجماس، ويلبغا الناصرى. وبكتمر الرّكنى ودقماق المحمدى المعزول عن نيابة ملطية، وشيخ المحمودى (أعنى المؤيّد) وآقبغا الطرنطائى والجميع ألوف، وجماعة أخر من الطبلخانات والعشرات، وأما المماليك السلطانية فمعظمهم، ونزل السلطان الملك الناصر فرج من القصر إلى الإسطبل السلطانى، ووقع القتال بين الطائفتين من وقت عشاء الأخيرة إلى باكر النهار ومعظم قتال أهل القلعة مع الذين كانوا برأس سويقة منعم، وتصادموا غير مرّة، وبينما القتال يشتدّ أمر الأتابك أيتمش البجاسى فنودى من قبض على مملوك جركسىّ وأحضره إلى الأمير الكبير أيتمش فله كيت وكيت، فلمّا سمعت الجراكسة الذين كانوا من حزب أيتمش ذلك حنقوا منه وتوجّه أكثرهم إلى السلطان، مع أن أيتمش كان من أعظم الجراكسة؛ غير أن زوال النعم شئ آخر، فعند ذلك كثر جمع السلطانية وقوى أمرهم، وحملوا على الوالد، وبمن معه وهو برأس سويقة

(12/187)


منعم، فكسروه، فمرّ بمن معه من الأمراء ومماليكه حتى اجتاز بداره، وهى دار طاز بالشارع «1» الأعظم تجاه حمّام الفارقانى «2» ، والقوم فى أثره، فحمى ظهره مماليكه الجلبان الذين بالأطباق بالرمى على السلطانية، حتى تركوه وعادوا، ومرّ الوالد حتى لحق بالأمير أيتمش بالصّوّة.
وأما السلطانية فإنهم لمّا كسروا الوالد، وكان الأهم عادوا لقتال فارس الحاجب، وكان فارس من الفرسان المعدودة الأقشية، فثبت لهم فارس المذكور ثباتا عظيما، لولا ما كادوه من أخذ مدرسة السلطان حسن، والرمى عليه من أعلاها إلى أن هزموه أيضا، وانحاز بطائفته إلى أيتمش بالصوّة، فكرر أيتمش المناداة على المماليك الجراكسة- خذلان من الله-، فذهب من كان بقى عنده منهم، وعند ذلك صدمته السلطانية صدمة هائلة كسروه فيها، وانهزم من بقى معه من الأمراء المذكورين والمماليك وقت الظهر من يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوّل من سنة اثنتين وثمانمائة، ومرّوا قاصدين إلى جهة الشأم حتى نزلوا بسرياقوس «3» ، فأخذوا من الخيول السلطانية التى كانت بها من جيادها نحو المائة فرس، ثم ساروا إلى نحو البلاد الشامية، وندب السلطان خلف أيتمش ورفقته من المنهزمين جماعة من أمراء الألوف وغيرهم، فالذى كان منهم من أمراء الألوف بكتمر الرّكنى المعروف

(12/188)


ببكتمر باطيا، ويلبغا الناصرى، وآقبغا الطرنطائى، ومن أمراء الطبلخانات أسنبغا الدوادار وبشباى من باكى، وصوماى الحسنى فى جماعة كثيرة من أمراء العشرات، والمماليك السلطانية، وهم نحو خمسمائة مملوك فلم يقفوا لهم على خبر، وعادوا من قريب.
وامتدّت الأيدى إلى بيوت الأمراء المنهزمين بالنهب، فنهبوا جميع ما كان فيها حتى نهبت الزّعر مدرسة أيتمش «1» وأحذوا جميع ما كان فيها حتى حفروا قبر ولده الذي كان بها، وأحرقوا الرّبع المجاور لها من خارج باب الوزير، ونهبوا جامع «2» آق سنقر المجاور لدار أيتمش، واستهانوا حرمة المصاحف بها، ثم نهبوا مدرسة السلطان حسن، وانتهبوا بيوتا كثيرة من بيوت المنهزمين، فكان الذي أخذ من بيت الوالد فقط من الخيل والقماش والسلاح وغير ذلك ما تزيد قيمته على عشرين ألف دينار.
ثم كسرت الزّعر حبس «3» الديلم وحبس «4» الرحية، وأخرجوا من كان بهما من أرباب الجرائم، وصارت القاهرة فى ذلك اليوم غوغاء، من غلب على شىء صار له، وقتل فى هذه الواقعة من الطائفتين جماعة كبيرة من المماليك وغيرهم، فكان الذي قتل من الأمراء قجماس المحمدى شادّ السلاح خاناه، وقرابغا الأسنبغاوى، وينتمر

(12/189)


المحمدى، واختفى بالقاهرة ممن كان مع الأتابك أيتمش، مقبل الرومى الطويل أمير جاندار، وكمشبغا الخضرى وجماعة أخر يأتى ذكرهم، وتوجّه بقية أصحابه الجميع صحبته إلى دمشق، وقصد أيتمش الأمير تنم الحسنى نائب الشام.
وأما تنم نائب الشام فإنه لما عظم أمره بدمشق وتمّ له ما قصده، وجّه الأمير آقبغا الطولوتمرى اللّكّاش فى عدّة من الأمراء والعساكر إلى غزّة فساروا من دمشق فى أوّل شهر ربيع الأوّل المذكور. ثم ندب جماعة أخر من كبار الأمراء إلى البلاد الحلبية، وخرجوا من دمشق فى ثالث شهر ربيع الأوّل، وعليهم الأمير جلبان الكمشبغاوى الظاهرى، المعروف بقراسقل المعزول عن نيابة حلب قديما، ومعه الأمير أحمد بن الشيخ على نائب صفد كان، والأمير بيخجا المعروف بطيفور نائب غزّة كان، وهو يومئذ حاجب دمشق والأمير يلبغا الإشقتمرى، والأمير صرق الظاهرى، وساروا إلى حلب لتمهيد أمورها. ثم قبض الأمير تنم على الأمير بتخاص وعيسى التركمانى وحبسهما بالبرج من قلعة دمشق، ثم خرج تنم فيمن بقى معه من عساكره فى سادسه يريد حلب، وجعل الأمير أزدمر أخا إينال اليوسفى نائب الغيبة بدمشق، وسار حتى قدم حمّص والستولى عليها، وولّى عليها من يثق به من أصحابه، ثم توجّه إلى حماة، فوافاه الأمير يونس بلطا نائب طرابلس ومعه عسكر طرابلس، ونزلوا على مدينة حماة، فامتنع نائبها الأمير دمرداش المحمدى بها، وقاتل تنم قتالا شديدا، وقتل من أصحاب تنم نحو الأربعة أنفس ولم يقدر عليه تنم، وبينما تنم فى ذلك ورد عليه الخبر بقيام أهل طرابلس على من بها من أصحابه.
وخبر ذلك أنه لما قرب محمد بن بهادر المؤمنى من طرابلس، بعث ما كان معه من الملطّفات من الديار المصرية لأهل طرابلس، فوصلت إليهم قبل قدومه،

(12/190)


ثم وصل هو بمن معه فى البحر، فظنه نائب غيبة يونس بلطا من الفرنج، فخرج إليه فى نحو ثلاثمائة فارس من أجناد طرابلس، فتبيّن له أنه من المسلمين، فطلبه نائب الغيبة بمن معه فلم يأته، وقاتلهم على ساحل البحر فانهزم إلى برج أيتمش، وكان تحت حكم ابن المؤمنى المذكور، فأصبح الذين أتتهم الملطّفات من مصر، ونادوا فى العامّة بجهاد نائب الغيبة، وخطب خطيب البلد بذلك، فشرعت العامّة فى قتال نائب الغيبة حتى هزموه ونهبوا ما كان معه توجه إلى حماة، فأرسل تنم الأمير الأمير صرق على عسكر كبير لقتال أهل طرابلس، فتوجه صرق إليهم، وقاتلهم قتالا شديدا مدّة تسعة أيام، وبينما تنم فى ذلك ورد عليه الخبر بواقعة الأمير أيتمش مع المصريين، وأنه نزل بمن معه فى دار النيابة بغزّة، وأنه سار بمن معه يريد دمشق، فسرّ تنم بذلك وأذن لنائب غيبته بدمشق وهو الأمير أزدمر بدخول أيتمش، ومن معه إلى دمشق وبالقيام فى خدمتهم حتى يحضر إليهم، تم لما بلغه عجز صرق عن أهل طرابلس، جهّز إليها نائبها الأمير يونس بلطا فى طائفة كبيرة من العساكر، فسار إليها يونس ودخلها بعد أن هزم ابن المؤمنى، وركب البحر ومعه القاضى شرف الدين مسعود قاضى القضاة الشافعية بطرابلس، يريدان القاهرة بمن معهما، ونهب يونس أموال الناس كافّة بطرابلس، وفعل فى طرابلس وأهلها ما لا تفعله الكفرة، وقتل نحو العشرين رجلا من أعيان طرابلس وقضاتها وعلمائها منهم: الشيخ العالم المفتى جمال الدين بن النابلسى الشافعى. والخطيب شرف الدين محمود، والقاضى المحدّث شهاب الدين أحمد الأذرعى المالكىّ، وقاضى القضاة شهاب الدين الحنفىّ، والقاضى موفّق الدين الحنبلى، وقتل من عامة طرابلس ما يقارب الألف، وصادر الناس مصادرات كثيرة، وأخذ أموالهم وسى حريمهم،

(12/191)


فكانت هذه الكائنة من أقبح الحوادث، وكانت فى الخامس عشر من شهر ربيع الأوّل المذكور.
وأمّا أمر الديار المصرية فإنه لمّا كان بعد الواقعة من الغد خلع السلطان على الأمير قرابغا مغرق «1» الظاهرى باستقراره فى ولاية القاهرة عوضا عن عيسى فلان بحكم عصيانه مع أيتمش، فمات من الغد من جرح كان أصابه فى الواقعة، واستقرّ فى ولاية القاهرة عوضه بلبان أحد المماليك الظاهريّة، فنزل بلبان المذكور بالخلعة إلى القاهرة فمرّ من باب زويلة يريد باب الفتوح، وعبر راكبا من باب الجامع الحاكى «2» وهو ينادى بالأمان، وإذا بالأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزين قد جاء من جهة باب النصر، وهو أيضا ينادى بين يديه باستقراره فى ولاية القاهرة، فتحيّرت المقدّمون والجبلية بينهما، وبينما هم فى ذلك وقد التقى بلبان مع ابن الزين فقال بلبان أنا ولّانى فلان، وقال ابن الزّين أنا ولّانى فلان، وإذا بالطواشى شاهين الحسنى قدم ومعه خلعة ابن الزين بولايته القاهرة، فبطل أمر بلبان، وتصرّف ابن الزين فى أمور الولاية ونادى بالكف عن النهب، وهدّد من ظفر به من النّهابة.
ثم فى سادس عشره عرض السلطان المماليك السلطانية، ففقد منهم مائة وثلاثون نفر قد انهزموا مع الأتابك أيتمش.
ثم قبض السلطان على الأمير بكتمر جلّق أحد أمراء الطبلخانات، وتنكزبغا الحططىّ أحد أمراء الطبلخانات أيضا ورأس نوبة، وقرمان المنجكى وكمشبغا الخضرى، وخضر بن عمر بن بكتمر الساقى، وعلى بن بلاط الفخرى، ومحمد بن

(12/192)


يونس النوروزى وألجيبغا السلطانى وأرغون السيفى وأحمد بن أرغون شاه، والجميع من أصحاب أيتمش.
ثم رسم السلطان فكتب بإحضار الأمير سودون أمير أخور المعروف بسيدى سودون، والأمير تمراز الناصرى من سجن الإسكندرية، والأمير نوروز الحافظى الأمير أخور الكبير كان، من ثغردمياط وسارت القصّاد لإحضارهم، فوصلوا فى العشرين منه وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ونزلوا إلى دورهم.
وفى أوّل شهر ربيع الآخر استقرّ الأمير آقباى من حسين شاه الطّرنطائىّ حاجب الحجّاب عوضا عن الأمير فارس الأعرج، واستقرّ الأمير دقماق المحمدى المعزول عن نيابة ملطية باستقراره حاجبا ثانيا عوضا عن يعقوب شاه بحكم عصيانهما مع أيتمش.
ثم فى ثالثه خلع السلطان على كلّ من الأمير أسنبغا العلائى الدوادار والأمير قمارى الأسنبغاوى والى باب القلعة «1» ومنكلى بغا الصلاحى الدوادار وسودون المأمورى باستقرارهم حجّابا، واستقر تمربغا المحمدى نائب القلعة «2» .
وأما الأمير تنم فإنه لما جاءه خبر أيتمش ترك حصار حماة وعاد إلى دمشق ثم خرج إلى لقاء أيتمش وأصحابه فى خامس شهر ربيع الآخر إلى ظاهر دمشق.
فلمّا عاينهم ترجّل عن فرسه وسلّم عليهم وبالغ فى إكرامهم، وعاد بهم إلى دمشق وقدّم إليهم تقام جليلة، لاسيّما الوالد فإن تنم قام بخدمته زيادة عن الجميع، حتى يزول ما كان عنده حسب ما تقدّم ذكره وسببه أنه كان وعّر خاطر أستاذه الملك الظاهر برقوق عليه حتى عزله عن نيابة حلب، فأخذ تنم يعتذر إليه، ويتلطّف

(12/193)


به حتى زال ما كان عنده من الكمائن القديمة، وصار من أعظم أصحابه، وحلّفه على موافقته وحلف له، ووعده بأمور كثيرة يستحيا من ذكرها.
ثم كتب الوالد إلى الأمير دمرداش المحمدى نائب حماة بالدخول فى طاعة تنم حسب ما يأتى ذكره.
ثم قدم على الأمير تنم كتاب الملك الناصر فرج يأمره بمسك الأتابك أيتمش وبمسك الوالد ومن قدم معهما، فأخذ تنم الكتاب وأتى به إلى أيتمش ورفقته، وقرأه عليهم بالقصر الأبلق «1» من الميدان، فضحك الوالد وقال له: امتثل مرسوم السلطان وافعل ما أمرك به فتبسّم تنم وقال له: بالله عليك زوّل ما عندك وطيّب قلبك، وقام وعانقه، ثم تكلّم تنم مع الأمراء فيما يفعله فى أمر دمرداش نائب حماة، فأشار الوالد بأنه يتوجّه إليه صحبة الأمير الكبير أيتمش، ثم يتوجّهان أيضا إلى نائب حلب يدعوانه إلى طاعة تنم وموافقته، فقال: هذا الذي كان خاطرى، فإن دمرداش لا يسمع لأحد غيرك، وخرجا بعد أيام إلى جهة حماة، فأجاب دمرداش بالسمع والطاعة، ودخل تحت طاعة تنم ووعد بالقيام بنصرته، ثم عاد الوالد وأيتمش إلى دمشق فسرّ تنم بذلك غاية السرور.
ثم قدم دمرداش بعد ذلك بأيام إلى دمشق، فخلع عليه تنم باستمراره على نيابة حماة، وأنعم عليه بأشياء كثيرة وتوجّه إلى حماة ثم أخذ الجميع فى التأهّب إلى قتال المصريين.
وأمّا ما وقع بالديار المصرية من الولايات والعزل، فإنه لمّا كان العشر الأخير من شهر ربيع الاخر، خلع السلطان على الأمير بيبرس الدوادار باستقراره أتابك

(12/194)


العساكر بالديار المصرية عوضا عن الأمير أيتمش البجاسىّ، وأنعم عليه بإقطاعه إلا النّحريرية «1» ومنية بدران «2» وطوخ «3» الجبل، فغضب بيبرس بسبب ذلك فلم يلتفت إلى غضبه، وأنعم بإقطاع الوالد ووظيفته على نوروز الحافظى، وأنعم على تمراز الناصرىّ بإقطاع أرغون شاه أمير مجلس، وأنعم على سودون أمير آخور بإقطاع يعقوب شاه الحاجب، وأنعم بإقطاع بيبرس على بكتمر الرّكنى، وبإقطاع بكتمر على دقماق المحمدى نائب ملطية كان، وبإقطاع دقماق على جركس القاسمىّ المصارع، واستقرّ أمير طبلخاناه، وأنعم على كلّ من كزل الناصرى، وقمارى الأسنبغاوى، وشاهين من شيخ الإسلام، وشيخ السليمانىّ، وبشباى من باكى، وتمربغا الظاهرى، وجكم من عوض، وصوماى، وتمر الساقى، وإينال حطب، وقانى باى العلائىّ، وسودون المأمورىّ، وألطنبغا الخليلىّ ومجترك القاسمىّ، وكزل المحمدى، وبيغان الإينالى بإمرة عشرين، وأنعم على كلّ من أزبك الرمضانىّ وأسندمر العمرىّ وقرقماس السيفىّ ومنكلى بغا الصلاحى وآقبغا الجوجرى وطيبغا الطولوتمرى وقانى باى من باشاه ودمرداش الأحمدى وآقباى السلطانى وأرغون شاه الصلاحىّ ويونس العلائى وجمق ونكباى الأزدمرى وقانى بك الحسامى وبا يزيد من بابا وآقبغا المحمدى وسودون الشمسىّ وسودون البجاسىّ وتمراز من باكى وسودون النوروزىّ وأسنبغا المسافرى وقطلوبغا الحسنى وقطلقتمر المحمدىّ وسودون الحمصىّ وسودون القاسمىّ وأرزمك وأسنباى بإمرة عشرة، وحلفوا الجميع على طاعة السلطان، والسفر معه لقتال تنم.

(12/195)


ولمّا بلغ المماليك السلطانية سفر السلطان إلى الشام امتنعوا وهدّدوا الامراء وأكثروا لهم من الوعيد، فخاف سودون طاز وتأخّر عن الخدمة السلطانية، ثم اتفقت المماليك المذكورة، وتوجّهوا إلى الأمير يشبك وهو متوعّك وحدّثوه فى أمر السفر، فاعتذر لهم بما هو فيه من الضعف، ثم وقع الخلف بين الأمير سودون قريب الملك الظاهر المعروف بسيّدى سودون وبين الأمير سودون طاز، وتسابا بسبب سكنى الإسطبل السلطانى بالحرّاقة، وعلى وظيفة الأمير أخورية وكادا يقتتلان، لولا فرق بينهما الأمير نوروز الحافظى.
ثم وقع أيضا بين الأمير سودون طاز المذكور وبين الأمير جركس القاسمى المصارع تنافس، وتقابضا بالأطواق، ولم يبق إلّا أن تثور الفتنة، حتى فرّق الأمراء بينهما، وصارت المملكة بأيدى هؤلاء الأمراء، وكلّ من أراد شيئا فعله، فصار الرجل يلى الوظيفة من سعى فلان، وينزل إلى داره فيعزل فى الحال بأمر غيره، وكلّ أحد يتعصّب لواحد، وكل منهم يروم الرتب العلية.
هذا ومثل تنم وأيتمش ورفقتهما فى طلبهم وفى القصد إلى الديار المصرية، ثم أخذ نوروز يسكّنهم عن إثارة الفتنة، ويخوّفهم عاقبة تنم، حتى عملوا مشورة بين يدى السلطان بسبب قتال تنم وغيره، فحضر جميع الأمراء ورتّبوا أمورا: منها إقامة نائب بالديار المصرية، وعيّنوا عدّة تشاريف.
فلمّا كان يوم الخميس ثانى عشر شهر ربيع الآخر خلع السلطان على الأمير سودون طاز باستقراره أمير أخورا كبيرا، عوضا عن سودون الطّيار، لتأخّره بدمشق عند تنم، وخلع على الأمير مبارك شاه باستقراره حاجبا ثالثا بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وهذا بخلاف العادة.

(12/196)


ثم خلع على بعض الأمراء واستقرّ حاجبا ثامنا، وهذا أيضا بخلاف العادة، لأن فى القديم كان بمصر ثلاثة حجّاب (أعنى بالقديم فى دولة الملك الناصر محمد ابن قلاوون) ثم لا زال الملك الظاهر برقوق يزيد الحجّاب حتى صار عدّتهم ستة، وذلك فى أواخر دولته، والآن صاروا ثمانية، وكان هذا أيضا مما عابه الأمير تنم على أمراء مصر فيما فعلوه.
قلت: والسّكات أجمل، فإنّ تلك الحجّاب الثمانية كان فيهم ثلاثة أمراء ألوف وثلاثة طبلخاناه، وأمّا يومنا هذا ففيه بمصر أزيد من عشرين حاجبا، ما فيهم أمير خمسة، بل الجميع أجناد، وفيهم من جنديّته غير كاملة، والحاجب الثانى أمير عشرة، فسبحان الحكيم الستّار.
ثم بعد أيام خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى باستقراره رأس نوبة الأمراء، وعلى الأمير تمراز باستقراره أمير مجلس، وعلى الأمير سيدى سودون باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن بيبرس، وكانت شاغرة منذ انتقل بيبرس عنها إلى الأتابكية.
وهذا كله بعد أن ورد الخبر على الملك الناصر بخروج الأمير تنم من دمشق يريد القاهرة، فعندئذ أمر السلطان بأن يخرج ثمانية أمراء من مقدّمى الألوف بألف وخمسمائة مملوك من المشتروات، وخمسمائة مملوك من مماليك الخدمة، وأن يخرجوا فى أول جمادى الآخرة، فمنهم من أجاب، ومنهم من قال: لا بدّ من سفر السلطان واختلف الرأى وانفضوا على غير شىء، ونفوسهم متغيّرة من بعضهم على بعض، كلّ ذلك والأمراء تكذّب خروج تنم من دمشق حتى علّق جاليش «1» السفر على

(12/197)


الطبلخاناه السلطانية، ووقع الشروع فى النفقة للأمراء، فحمل إلى كل من الأمراء الأكابر مائة ألف درهم، ولمن دونهم كل واحد على قدر رتبته، وأنفق على ثلاثة آلاف مملوك وستمائة مملوك لكل واحد مائة دينار، فبلغت جميع النفقة نحو خمسمائة ألف دينار.
ثم خرجت مدوّرة «1» السلطان وخيامه، ونصبوا خارج القاهرة تجاه مسجد التبن «2» .
ثم خلع السلطان على الأمير بكتمر الركنى باستقراره أمير سلاح عوضا عن الوالد، وكانت شاغرة عنه منذ توجه مع أيتمش إلى الشام، وبينما السلطان فى ذلك قدم علاء الدين على بن المكلّلة والى منفلوط، وأخبر أن ألطنبغا نائب الوجه القبلى خرج هو ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الهوّارى عن الطاعة، وكبسا عثمان بن الأحدب، ففرّ ابن الأحدب إلى جهة منفلوط وتبعاه إليها وأخرباها، فرسم السلطان لكل من الأمير الكبير بيبرس والأمير إينال باى من قجماس وآقباى بن حسين شاه حاجب الحجّاب وسودون من زادة وإينال حطب رأس نوبة، وبيسق الشيخىّ الأمير أخور الثانى، وبهادر فطيس الأمير أخور الثالث أن يتوجّهوا إلى بلاد الصعيد لقتال ألطنبغا وابن عمر الهوّارى فلم يوافقوا على ذلك ولا سار أحد.

(12/198)


ثم قدم الخبر على السلطان بأنّ الأمير دمرداش المحمدى نائب حماة قدم على الأمير تنم بدمشق بعساكر حماة، وأن لأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب لمّا برز هو أيضا من حلب يريد المسير إلى دمشق ثار عليه جماعة من أمراء حلب وقاتلوه فكسّرهم، وقبض على جماعة منهم، ثم سار إلى دمشق فسرّ بقدومه تنم وأكرمه غاية الإكرام، وأنه قد خرج من دمشق من أصحاب تنم الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، والأمير يعقوب شاه، وفارس حاجب الحجّاب، وصرق وفرج بن منجك إلى غزّة، فعند ذلك خلع السلطان على الأمير عمر بن الطحّان حاجب غزّة باستقراره فى نيابة غزّة، وعلى سودون حاجبها الصغير باستقراره حاجب حجّاب غزّة عوضا عن ابن الطحان المذكور.
ثم قدم الخبر على السلطان بأن عساكر تنم خرجوا من دمشق فى يوم خامس عشرين جمادى الآخرة، فأمر السلطان الأمير سودون المأمورىّ الحاجب بالتوجّه إلى دمياط لينقل منها الأمير يلبغا الأحمدى المجنون الأستادار كان، والأمير تمربغا المنجكى، وطغنجى وبلاط السعدىّ، وقراكسك إلى سجن الإسكندرية.
هذا وقد تجهّزت العساكر المصرية للسفر صحبة السلطان لقتال تنم وتهيأ الجميع.
فلمّا كان يوم الاثنين رابع شهر رجب نزل السلطان الملك الناصر من القلعة إلى الرّيدانية «1» خارج القاهرة، وأصبح من الغد خلع على الأمير الكبير بيبرس باستقراره فى نظر البيمارستان المنصورى، وبنيابة الغيبة بالديار المصرية، وخلع على الأمير نوروز الحافظىّ رأس نوبة الأمراء باستقراره فى نظر الخانقاه الشيخونية، ثم أصبح من الغد سادس الشهر خلع السلطان على الأمير نوروز المذكور بتقدمة

(12/199)


العساكر، ثم أنفق السلطان على جماعة من المماليك السلطانية بنحو خمسة وعشرين ألف دينار إنعاما.
وفى اليوم المذكور رحل جاليش «1» السلطان من الرّيدانيّة، وفيه من الأمراء نوروز الحافظىّ مقدّم العساكر وبكتمر الركنى المعروف بباطيا أمير سلاح، وتمراز الناصرى أمير مجلس، ويلبغا الناصرى، وسودون الدوادار المعروف بسيدى سودون، وشيخ المحمودى هو المؤيّد، ودقماق المحمدى الحاجب الثانى، والجميع مقدّمو ألوف.
ثم رحل السلطان بعدهم فى يوم الجمعة ثامنه ببقيّة العساكر، وعدّة ما سافر أوّلا وثانيا سبعة آلاف فارس، وهذا سوى من أقام بالقاهرة، وهم أيضا عدّة كبيرة من الأمراء والمماليك، فأمّا الأمراء فكان بالقاهرة بيبرس، وآقباى حاجب الحجّاب، وأقام بقلعة الجبل الأمير إينال باى من قجماس أحد مقدّمى الألوف، وإينال حطب رأس نوبة، وأقام بالإسطبل السلطانى «2» سودون من زادة، وبهادر؟؟؟ طيس وبيسق الشيخى أمير أخور ثانى، وأقام عند هؤلاء جماعة كبيرة من المماليك السلطانية.
وأما تنم فكان من خبره أنه قدم جماعة من أمرائه وعساكره إلى مدينة غزّة حسب ما ذكرناه، وهم: الأمير أرغون شاه البيدمرى أمير مجلس، وفارس حاجب

(12/200)


الحجاب، ويعقوب شاه وصرق، والأمير فرج من منجك فتوجّهوا أمامه بعساكر كثيرة.
ثم قدم على تنم الأمير يونس بلطا نائب طرابلس بعساكرها وغيرهم، ومعه الأمير حمد بن يلبغا أمير مجلس كان، وكان قدم على تنم قبله نائب حلب الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، ونائب حماة الأمير دمرداش المحمدى، فخرج هؤلاء النوّاب أيضا أمام تم إلى جهة غزة، ثم تبعهم الأمير تنم ومعه الأتابك أيتمش والوالد وبقية عساكره، بعد أن جعل الأمير جركس المعروف بأبى تنم نائب الغيبة بدمشق، وعنده جماعة أخر من أعيان الأمراء، ثم خرج بعد الأمير تنم الأمير يونس بلطا نائب طرابلس، وسار تنم فى عساكر عظيمة إلى الغاية، وكان قبل سفره بدمشق منذ قدم عليه أمراء مصر يعمل كلّ يوم موكبا أعظم من الآخر، حتى قيل: إن موكبه كان يضاهى موكب أستاذه الملك الظاهر برقوق بل أعظم، وكان يركب بالدّفّ والشبّابة «1» والشعراء والجاويشية، ويركب فى خدمته من الأتابك أيتمش إلى من دونه من أمراء الألوف، وهم نحو خمسة وعشرين أميرا من أمراء الألوف، سوى أمراء الطبلخانات والعشرات، وذلك خارج عن التركمان والأعراب والعشير «2» ، وكانوا أيضا جمعا كبيرا إلى الغاية، وآخر موكب عمله بدمشق كان فيه عساكر دمشق بتمامها وكمالها، وعساكر حلب وطرابلس وحماة، وجماعة كبيرة من عظماء أمراء الديار المصرية (أعنى أيتمش ورفقته) ، وكان الجميع قد أذعنوا لتنم بالطاعة، حتى إنه لم يشكّ أحد فى سلطنته، حتى ولا أمراء مصر أخصامه، فإنهم كتبوا له فى الصلح غير مرة، وفى المستقبل أيضا حسب ما يأتى ذكره، وأنفق تنم فى العساكر من الأموال ما لا يحصى.

(12/201)


وأمّا أمراء الديار المصرية فإنه لما سافر السلطان إلى جهة تنم بعساكره فى ثامن الشهر، قدم الخبر فى صبيحته على الأمير بيبرس وهو يوم السبت من البحيرة، بأن الأمير سودون المأمورىّ الحاجب أخذ الأمراء من ثغردمياط، وسار بهم نحو الإسكندرية، فلمّا وصل بهم إلى ديروط «1» لقيه الشيخ المعتقد عبد الرحمن ابن نفيس الدّيروطىّ وأضافه، فعندما قعد الأمير سودون المأمورىّ هو والأمراء للأكل قام يلبغا المجنون ووثب هو ورفقته من الأمراء على سودون المأمورىّ، وقبضوا عليه وعلى مماليكه وقيّدوهم بقيودهم، وبينما هم فى ذلك قدمت حرّاقة من القاهرة فيها الأمير كمشبغا المحضرى وإياس الكمشبغاوى وجقمق البجمقدار، وأمير آخر، والأربعة فى القيود، فدخلت الحرّاقة بهم إلى شاطئ ديروط ليقضوا حاجة لهم، فأحاط بهم يلبغا المجنون، وخلّص منهم الأربعة المقيّدين، وأخذهم إلى أصحابه.
ثم كتب يلبغا إلى نائب البحيرة بالحضور إليه، وأخذ خيول الطواحين، وركب هو ورفقته من الأمراء وسار بهم إلى مدينة دمنهور وطرقها بغتة، وقبض على متولّيها، وأتته العربان من كل فجّ حتى صار فى عدد كبير.
ثم نادى بإقليم البحيرة بحطّ الخراج عن أهلها عدّة سنين، وأخذ مال السلطان الذي استخرج من تروجة «2» وغيرها، وبعث يستدعى بالمال من النواحى، فراعاه الناس، فإنه كان ولى وظيفة الأستادارية سنين كثيرة، فكتب بيبرس بذلك يعرّف السلطان والأمراء، فوردت كتبهم إلى نائب الإسكندرية بالاحتراز على مدينة

(12/202)


إسكندرية وعلى من عنده من الأمراء المسجونين، وكتب السلطان أيضا إلى أكابر العربان بالبحيرة بالإنكار عليهم، وبإمساك يلبغا المجنون ورفقته، وكتب السلطان أيضا للأمير بيبرس أن يتجرد هو وآقباى الحاجب وإينال باى بن قجماس ويسق أمير أخور، وإينال حطب رأس نوبة، وأربعمائة مملوك من المماليك السلطانية لقتال يلبغا المجنون، وكتب السلطان مثالا «1» إلى عربان البحيرة بحطّ الخراج عنهم مدّة ثلاث سنين.
وأما يلبغا المجنون فإنه عدّى من البحيرة إلى الغربيّة خوفا من عرب البحيرة، ودخل المحلّة «2» ، ونهب دار الكاشف، ودار إبراهيم بن بدوى كبيرها، وقبض عليه وأخذ منه ثلاثمائة ففّة فلوس، ثم عدّى بعد أيّام سمنّود إلى برّ أشموم طناح، وسار إلى الشرقيّة، ونزل على مشتول الطواحين «3» ، وسار منها إلى العبّاسة «4» ، فارتجّت القاهرة، وبعث الأمير بيبرس إلى برّ الجيزة حيث الخيول مربوطة به على الربيع، فأحضروها إلى القاهرة خوفا من يلبغا، لئلّا يطرقهم على حين غفلة، وبينما بيبرس فى ذلك ورد عليه الخبر بمخامرة كاشف الوجه القبلى مع العرب، فاضطرب بيبرس وخاف على القاهرة، وكان فيه لين جانب وانعكاف على اللهو والطرب، فشرع بيبرس فى استخدام الأجناد، وأراد بيبرس الخروج إلى يلبغا المجنون، فمنع، وخرج إليه الأمير آقباى الحاجب ويلبغا السالمى، وبيسق أمير أخور، ومحمد بن سنقر فى ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية كما سنذكره.

(12/203)


وأما السلطان الملك الناصر فإنه لما سار بعساكره من الريدانية، واستقل بالمسير من يومه حتى نزل على منزلة تل العجول «1» خارج مدينة غزة فى ثامن عشر رجب، وأقام به يومه، فلم يلبث إلا وجاليش الأمير تنم طرقه، ومقدّم العسكر المذكور الولد، وصحبته من أكابر الأمراء والنوّاب: آقبغا الجمالى نائب حلب ودمرداش المحمدى نائب حماة، وألطنبغا العثمانى نائب صفد وجقمق الصفوى نائب ملطية، وجماعة أخرى من أكابر الأمراء وهم: أرغون شاه أمير مجلس وفارس الحاجب، وآقبغا الطولوتمرى اللّكّاش، ويعقوب شاه، وجماعة كبيرة من الأمراء والعساكر، فركبت العساكر المصرية فى الحال، وقاتلوهم من بكرة النهار إلى قريب الظهر، وكل من الفريقين يبذل جهده فى القتال، والحرب تشتدّ بينهم إلى أن خرج من جاليش عسكر تنم دمرداش المحمدى نائب حماة بمماليكه وطلبه، ثم تبعه ألطنبغا العثمانى نائب صفد بطلبه وعساكره، ثم صراى تمر الناصرى أتابك حلب بمماليكه، ثم جقمق الصّفوى نائب ملطية بطلبه ومماليكه، ثم فرج بن منجك أحد أمراء الألوف بطلبه ومماليكه، ثم تبعهم عدّة أمراء أحر، فعند ذلك انهزم الوالد بمن بقى معه إلى نحو الأمير تنم، وملك السلطان الملك الناصر مدينة غزّة، ونزل على مصطبة السلطان.
وأما تنم فإنه نزل بعساكره على مدينة الرّملة واجتمع عليه الوالد بها بمن بقى معه من العساكر الشامية، وقصّ عليه ما وقع من أمر القتال وهروب الأمراء من عسكره، فتأثّر تنم قليلا ثم أراد القبض على الأمير بتحاص، فمنعه بعض أصحابه من ذلك، ثم أخذ يتهيّأ لقتال المصريين، ولم يكترث بما وقع لجاليشه لكثرة عساكره، وقوّته بمن بقى معه من أكابر الأمراء وغيرهم.

(12/204)


وأمّا العسكر السلطانىّ المصرىّ فإنهم لمّا دخلوا إلى غزّة بلغهم أنّ تنم إلى الآن لم يصل إلى الرّملة بعساكره، وإنما الذي قاتلهم هو جاليش عسكره، فكثر عند ذلك تخوّفهم منه، وداخلهم الرّعب، وعملوا بسبب ذلك مشورة، فاتفق الرأى أن يتكلّموا معه فى الصلح، وأرسلوا إليه من غزّة قاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعىّ، ومعه المعلّم نصر الدين محمد الرّماح أمير أخور، وطغاى تمر مقدّم البريديّة، فخرجوا الجميع من غزّة فى يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب، وكتب لتنم صحبتهم أمان من السلطان، وأنه باق على كفالته بدمشق إن أراد ذلك، وإلّا فيكون أتابك العساكر بمصر، وإليه تدبير ملك ابن أستاذه الملك الناصر فرج لا يشاركه فى ذلك أحد.
ثم كتب إليه أعيان الأمراء يقولون: أنت أبونا وأخونا وأستاذنا، فإن أردت الشام فهى لك، وإن أردت مصر كنّا مماليكك، وفى خدمتك، فصن دماء المسلمين ودع عساكر مصر فى قوّتها، فإنّ خلفنا مثل تيمورلنك، وأشياء كثيرة من أنواع التضرّع إليه، فسار إليه قاضى القضاة المذكور برفيقيه حتى وافاه بمدينة الرملة «1» وهو بمخيّمه على هيئة السلطان، والأتابك أيتمش عن يمينه والوالد عن يساره، وبقيّة الأمراء على منازلهم ميمنة وميسرة، فلمّا عاين تنم قاضى القضاة المذكور قام له واعتنقه، وأجلسه بجانبه فحدّثه قاضى القضاة المذكور فى الصلح، وأدّى له الأمان ووعظه، وحذّره الشّقاق والخروج عن الطاعة، ثم كلّمه ناصر الدين الرّماح وطغاى تمر بمثل ذلك، وترّفقا له عن لسان الأمراء، وأن السلطان هو ابن الملك الظاهر برقوق، ليس له من يقوم بنصرته غيرك، فقال تنم: أنا مالى مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلى يشبك وسودون طاز وجركس المصارع، وعدّد جماعة أخر كثيرة،

(12/205)


ويعود الأمير الكبير أيتمش وجميع رفقته على ما كانوا عليه أوّلا، فإن فعلوا ذلك وإلّا فما بينى وبينهم إلا السيف، وصمّم على ذلك، فراجعه قاضى القضاة غير مرّة فيما يريده غير ذلك، فأبى إلّا ما قاله، فعند ذلك قام القاضى من عنده، فخرج معه تنم إلى ظاهر مخيّمه يوادعه، فلمّا قدم صدر الدين المناوى على الملك الناصر وأعاد عليه الجواب قال: السلطان: أنا ما أسلّم لالاتى لأحد (يعنى عن يشبك الشعبانى) ، وانفضّ الأمراء، وقد أجمعوا على قتاله، وركب تنم بعساكره من مدينة الرملة يريد جهة غزّة، وركب السلطان بعساكره من غزّة يريد الرملة. إلى أن أشرف على الجيتين «1» قريب الظهر، فعاين تنم وقد عبّأ عساكره، وهم نحو الخمسة آلاف فارس، ونحو ستة آلاف راجل، وصفّ الأطلاب فعبّأ أيضا الأمراء عسكر السلطان ميمنة وميسرة، وقلبا فى قلب فى قلب، ولكل جماعة «2» رديف، وكان ذلك تعبئة ناصر الدين المعلّم أخذت أنا هذه التعبئة عن الأتابك آقبغا التمرازى عنه، انتهى.
ثم تقدّم العسكران وتصادما فلم يكن إلا أسرع وقت، وكانت الكسرة على تنم، وانهام غالب عسكره من غير قتال، خذلان من الله تعالى، لأنه تقنطر عن فرسه فى أوائل الحرب، فانكسرت عساكره لتقنطره فى الحال ولوقوعه فى الأسر، وقبض عليه وعلى جماعة كبيرة من أعيان أصحابه من أكابر الأمراء والنوّاب، ولقد سألت جماعة من أعيان مماليك تنم ممن كان معه فى الوقعة المذكورة عن سبب تقنطره، فإنه لم يطعنه أحد من العسكر السلطانىّ، فقالوا: كان فى فرسه الذي ركبه شؤم. إما شعر رسل «3» أو تحجيل «4» ، منتهى الوهم متى، قالوا: فكلّمناه فى ذلك ونهيناه عن ركوبه فأبى

(12/206)


إلا ركوبه، وقال: ما خبأته إلا لهذا اليوم، فحالما علا ظهره وحرّكه لينظر حال عسكره ووغل فى القوم تقنطر به، وقد كرّت عساكره إلى نحوه، ولم يلحقه أحد من مماليكه، فظفر به، ولما قبض على تنم قبض معه بعد هزيمة عسكره على الأمير آقبغا الجمالى نائب حلب، ويونس بلطا نائب طرابلس، وأحمد بن الشيخ على نائب صفد كان، وجلبان قراسقل نائب حلب كان، وفارس حاجب الحجاب، وبيغوت وبيرم رأس نوبة أيتمش، وشادى خجا، ومن الطبلخانات والعشرات من أمراء مصر والشام ما ينيف على مائة أمير، وفرّ الأتابك أيتمش والوالد، وأحمد بن يلبغا أمير مجلس كان، وأرغون شاه أمير مجلس، ويعقوب شاه وآقبغا اللّكّاش، وبيخجا المدعو طيغور نائب غزّة كان، وجماعة أخر فى نحو ثلاثة آلاف مملوك، وتوجّهوا إلى دمشق.
ولمّا قبض على تنم أنزل فى خيمة وقيّد، ثم شكا العطش وطلب ماء ليشربه، فقام الأمير قطلوبغا الحسنى الكركى وهو يوم ذلك أحد أمراء الطبلخانات وشادّ الشراب خاناه السلطانية، وتناول الكوز وأخذ ششنة «1» على عادة الملوك، ثم سقاه لتنم، وكان لما أمسك تنم ادّعى مملوك من الظاهرية أنه قنطر تنم عن فرسه، وطلب إمرة عشرة، فلمّا بلغ ذلك تنم قال: اطلبوه إلى عندى، فأحضروه، فنظر إليه طويلا ثم قال له: أنت تستأهل إمرة عشرة وغيرها بدون ذلك، إلا أنّ الكذب قبيح، هذا قرقلى «2» إلى الآن علىّ، أين المكان الذي طعنتنى فيه برمحك، أنا ما رمانى إلا الله تعالى، ثم فرسى الأشقر.

(12/207)


وعندما أمسك تنم كتبت البشائر إلى الديار المصرية والبلاد الشاميّة بذلك، ودقّت البشائر، وسار أيتمش ورفقته إلى نحو دمشق حتى وصلوها، فأراد الوالد ويعقوب شاه وجماعة أن يتوجّهوا إلى بلاد التّركمان، حتى يأتيهم أمان من السلطان، وأشاروا على أيتمش بذلك، فامتنع أيتمش من ذلك، وأبى إلّا دخول دمشق، فحال دخولهم إليها وهم فى أشدّ ما يكون من النعب، وقد كلّت خيولهم، ثار عليهم أمراء دمشق، وقبضوا على أيتمش والوالد، وآقبغا اللّكّاش وأحمد بن يلبغا النابلسى، وحبسوا بدار السعادة، وفرّ من بقى، ثم أمسك بعد يومين أرغون شاه ويعقوب شاه، وتتبّع أمراء دمشق بقيّة أصحاب تنم من كلّ مكان حتى قبضوا على جماعة كبيرة منهم.
وأمّا يلبغا المحنون فإنه لمّا خرج إليه العسكر من مصر مع آقباى الحاجب، سار آقباى إلى العبّاسة «1» فلم يقف ليلبغا المجنون على خبر، فقيل له إنه سار إلى قطيا «2» ، فنزل آقباى بالعساكر على الصالحية «3» فلم يروا له أثرا، فعادوا إلى القاهرة من غير حرب، وسار ابن سنقر وبيسق نحو بلاد السباخ فلم يجدا أحدا، فعادا إلى عيتا «4» فى يوم الجمعة وأقاما بها، فلم يشعرا إلّا ويلبغا المجنون قد طرقهما وقبض عليهما، وأخذ خطّهما بجملة من المال، فارتجّت القاهرة لذلك، ثم سار يلبغا بعد

(12/208)


أيام، حتى نزل البئر «1» البيضاء، فبعث له بيبرس أمانا، فقبض على من حضر من عند بيبرس وطوّقه من الحديد، فاستعدّ الناس تلك الليلة بالقاهرة لقتاله، وباتوا على أهبة اللقاء، وركب الأمراء بأسرهم من الغد إلى قبّة النصر «2» خارج القاهرة، وصفّوا عسكرهم من الغد، وبعد ساعة أقبل يلبغا المجنون بجموعه فواقعهم عند بساتين المطرية «3» ومعه نحو ثلاثمائة فارس، فيهم واحد من مماليك الوالد يسمى كزل بغا، وصدمهم بمن معه، وقصد القلب، وكان فيه سودون من زادة، وإينال حطب، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية، فأطبق عليه الأمير بيبرس من الميمنة، ومعه يلبغا السّالمىّ الأستادار، وساعدهما إينال باى من قجماس بمن معه من الميسرة، فنقنطر سودون من زادة، وخرق يلبغا المجنون القلب فى عشرين فارسا، وسار إلى الجبل الأحمر، وانكسر سائر من كان معه من الأمراء وغيرهم، فتبعهم العسكر وفى ظنّهم أن يلبغا المجنون فيهم، فأدركوا الأمير تمربغا المنجكى بالزيّات «4» ، وقبضوا عليه، وأخذ طلب يلبغا المجنون من عند خليج الزّعفران فوجدوا فيه ابن سنقر وبيسق الشيخى أمير آخور اللذين كان قبض عليهما يلبغا المجنون بالبئر البيضاء، فأطلقوهما، وعاد العسكر إلى تحت قلعة الجبل، وسار يلبغا المجنون فى عشرين فارسا مع ذيل الجبل إلى تجاه دار الضيافة، فلمّا رأى كثرة من اجتمع من العامّة خاف منهم أن

(12/209)


يرجموه، فقال لهم: أنتم ترجمونى بالحجارة وأنا أرجمكم بالذهب، فدعوا له وتركوه فسار من خلف القلعة ومضى إلى جهة الصعيد من غير أن يعرّف الأمراء، وتوجّه فى نحو المائة فارس، وأخذ خيل والى الفيّوم «1» ، وانضمّ عليه جماعة من العربان.
وأمّا السلطان الملك الناصر فإنه لمّا كسر تنم وقبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وقيّدهم، أرسل فى الحال سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى الشام لتحصيل الإقامات «2» ، ثم ندب السلطان الأمير جكم من عوض رأس نوبة للتوجه إلى دمشق لتقييد الأمير أيتمش ورفقته وإيداعهم بسجن قلعة دمشق، ثم خلع السلطان على الأمير سودون الدوادار المعروف بسيّدى سودون، باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن الأمير تنم الحسنىّ، فسار جكم وفعل ما أمر به، ثم دخل بعده سودون نائب الشام إليها فى ليلة الاثنين ثانى شعبان ومعه الأمير تنم نائب الشام وعشرة أمراء فى القيود، فحبس الجميع بقلعة دمشق، ثم دخل السلطان الملك الناصر بعساكره وأمرائه إلى دمشق من الغد فى يوم الاثنين ثانى شعبان المذكور، فكان لدخوله يوم مشهود، وأوقع ابن غراب الحوطة على حواشى تنم، وعلى الأمير علاء الدين بن الطبلاوى.
ثم أصبح السلطان من الغد وخلع على سيّدى سودون بنيابة الشام ثانيا، وعلى الأمير دمرداش المحمّدى نائب حماة باستقراره فى نيابة حلب عوضا عن آقبغا الجمالى الأطروش، وعلى الأمير شيخ المحمودى المؤيّد باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن يونس «3» بلطا، وعلى الأمير دقماق المحمدى باستقراره

(12/210)


فى نيابة حماة عوضا عن دمرداش المحمدى، وعلى الأمير ألطنبغا العثمانى باستمراره على نيابة صفد، وعلى الأمير جنتمر التركمانى نائب حمص بنيابة بعلبك، وعلى الأمير بشباى من باكى باستقراره حاجب حجّاب دمشق عوضا عن بيخجا المدعوّ طيفور.
واستمرّ السلطان بعساكره فى دمشق إلى ليلة الأحد رابع عشر شعبان، فاتّفقت الأمراء المصريون على قتل جماعة من المقبوض عليهم، فذبح فى الليلة المذكورة الأمير الكبير أيتمش البجاسىّ، وجلبان الكمشبغاوى المعروف بقراسقل نائب حلب كان، فى دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، وأرغون شاه البيدمرى الظاهرىّ أمير مجلس كان، وأحمد بن يلبغا العمرى أمير مجلس كان، وابن أستاذ الملك الظاهر برقوق، وآقبغا الطّولوتمرى الظاهرى اللّكّاش أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وأمير مجلس، وفارس الأعرج حاجب الحجّاب بالديار المصرية، وكان من الشجعان، وفيه يقول الشيخ المقرئ الأديب شهاب الدين أحمد الأوحدى: [الرجز]
يا دهر كم تفنى الكرام عامدا ... هل أنت سبع للورى ممارس
أيتمش ربّ العلا صرعته ... ورحت للندب الهمام فارس
والأمير يعقوب شاه الظاهرى الحاجب الثانى، وأحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، وبيخجا المدعو طيفور نائب غزّة كان، ثم حاجب حجّاب دمشق، والأمير بيغوت اليحياوى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات، والأمير مبارك المجنون والأمير بهادر العثمانى الظاهرى نائب البيرة، وجميع من قتل من هؤلاء المذكورين من عظماء مماليك الملك الظاهر برقوق، قتلتهم خجداشيّتهم بذنب واحد لأجل الرياسة، ولم يكن فيهم غير ظاهرىّ إلّا الأتابك أيتمش، وهو أيضا ممن أقامه الملك الظاهر برقوق وأنشأه، بل كان اشتراه أيضا فى سلطنته الأولى حسب ما ذكرناه، وكان عند الظاهر بمنزلة عظيمة لسلامة باطنه، ولين جانبه وشيخوخته، فإنه كان

(12/211)


بمعزل عن إثارة الفتن، ويكفيك أن منطاشا لمّا ملك الديار المصريّة بعد خلع الظاهر برقوق، والقبض على الناصرىّ قتل غالب حواشى الملك الظاهر برقوق، وكان أيتمش فى حبسه بقلعة دمشق وهو أتابك العساكر وعظيم دولة برقوق، فلم يتعرّض إليه بسوء، لكونه كان مكفوفا عن الشرور والفتن، إلا هؤلاء القوم، فإنهم لمّا ظفروا بتنم وأصحابه لم يرحموا كبيرا لكبره ولا صغيرا لصغره، ولهذا سلّط الله تعالى بعضهم على بعض، إلى أن تفانوا جميعا.
ثم جهّزوا رأس الأتابك أيتمش المذكور، ورأس فارس الحاجب لا غير إلى الديار المصرية، فعلّقتا بباب قلعة الجبل، ثم بباب زويلة أيّاما ثم سلّمتا إلى أهلهما.
ثم خلع السلطان الملك الناصر على الأمير يشبك الشعبانى الخازندار باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن سيّدى سودون المنتقل إلى نيابة الشام، واستمر السلطان بدمشق إلى ليلة الخميس رابع شهر رمضان، فقتل فى الليلة المذكورة الأمير تنم الحسنى نائب الشام بمحبسه بقلعة دمشق، وقتل معه الأمير يونس بلطا نائب طرابلس أيضا، خنقا بعد أن استصفيت أموالهما بالعقوبة، ثم سلّما إلى أهلهما، فدفن تنم بتربته التى أنشأها عند ميدان الحصى خارج دمشق، وكان تنم المذكور- رحمه الله- من محاسن الدنيا، وكانت مدة ولايته على دمشق سبع سنين وستة أشهر ونصفا. ولقد أخبرنى بعض مماليك الوالد- رحمه الله- قال: لما حصر تيمورلنك العساكر المصرية بدمشق، كان الوالد يوم ذلك متولّى ثيابة دمشق، وكان مقيما على بعض أبواب دمشق لحفظها، وكان نوروز الحافظىّ على باب آخر، فركب نوروز الحافظى فى بعض الأيام، وأتى الوالد ووقف يحادثه، فكان من جملة كلامه للوالد، يا فلان، انظر عساكر هذا اللعين ما أكثرها، والله لو عاش أستاذنا لما قدر عليه لكثرة عساكره، فتبسّم الوالد وخاشنه فى اللفظ يمازحه، وقال له:

(12/212)


والله لو كان تنم حيّا للقيه من الفرات وهزمه أقبح هزيمة، وإنما عساكرنا الآن مفلولة، وآراؤهم مختلفة، وليس فيهم من يرجع إلى كلامه، فلهذا كان ما ترى. انتهى.
ثم دفن يونس بلطا بصالحية «1» دمشق، وكان أيضا ولى نيابة طرابلس نحو ست سنين، ثم قتل جميع من كان من أصحاب أيتمش وتنم، ولم يبق منهم إلا آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب، والوالد أبقى لشفاعة أخته خوند شيرين أم السلطان الملك الناصر فرج فيه، فإنها كانت ألزمت الأمير نوروز الحافظى والأمير يشبك الشعبانىّ بالوالد وحرّضتهما على بقائه، وكان لها يوم ذلك جاه كبير لسلطنة ولدها الملك الناصر، ثم أوصت ولدها الملك الناصر أيضا به، فزاد ذلك فسحة الأجل فأبقى، وأما آقبقا الأطروش فإنه بذل فى إبقائه مالا كبيرا للأمراء فأبقى.
ثم خلع السلطان على الأمير بتخاص السّودونى باستقراره فى نيابة الكرك عوضا عن سودون الظريف.
ثم خرج السلطان بعساكره وأمرائه من مدينة دمشق فى يوم رابع شهر رمضان صبيحة قتل تنم ويونس يريد الديار المصريّة، وسار حتى نزل غزّة فى ثانى عشر شهر رمضان المذكور، وقتل بغزّة علاء الدين على بن الطبلاوى أحد أصحاب تنم، ثم خرج من غزّة وسار يريد القاهرة حتى وصلها فى سادس عشرين رمضان من سنة اثنتين وثمانمائة، بعد أن زيّنت القاهرة، وفرشت له الشّقاق الحرير من تربة الأمير يونس الدوادار بالصحراء إلى قلعة الجبل، وكان يوم دخوله إلى مصر من الأيام المشهودة، وطلع إلى القلعة وكثرت التهانى بها لمجيئه.

(12/213)


ثم فى ثامن عشرينه أنعم السلطان على الأمير قصلوبغا الكركى الحسنى الظاهرى بإقطاع سيّدى سودون نائب الشام وأنعم على الأمير آقباى الكركى الخازندار بإقطاع شيخ المحمودى المنتقل إلى نيابة طرابلس، وأنعم على الأمير جركس القاسمى المصارع بإقطاع مبارك شاه، وأنعم على الأمير جكم من عوض بإقطاع دقماق المحمدى نائب حماة، والجميع تقادم ألوف، وأنعم السلطان على الأمير الطواشى مقبل الزمّام بإقطاع الطواشى بهادر الشّهابى «1» مقدّم المماليك بعد موته، وأنعم بإقطاع مقبل على الطواشى صواب السعدى المعروف بشنكل، وقد استقرّ مقدّم المماليك بعد موت بهادر المذكور، وأنعم بإقطاع صواب المذكور على الطواشى شاهين الألجائى نائب مقدّم المماليك.
ثم قدم على السلطان مملوك الأمير يلبغا المجنون من بلاد الصعيد بكتاب يلبغا المجنون يسأل فى نيابة الوجه القبلى، فرسم السلطان أن يخرج إليه تجريدة من الأمراء وهم: الأمير نوروز الحافظىّ وهو مقدم العسكر المذكور، وبكتمر أمير سلاح، وآقباى الحاجب، وتمراز أمير مجلس، ويلبغا الناصرى، وإينال باى بن قجماس، وأسنبغا الدوادار، وتتمّة ثمانية عشر أميرا، وخرجوا من القاهرة فى ثالث عشر شوّال ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية.
وفى صبيحة يوم خروج العسكر، ورد الخبر على السلطان بأن الأمير محمد بن عمر ابن عبد العزيز الهوّارى حارب يلبغا المجنون، وأنه قبض على أمير على دواداره، وعلى نائب الوجه البحرى، وعلى الأمير إياس الكمشبغاوى الخاصكى، وعلى جماعة من أصحابه، وأن يلبغا المجنون فرّ بعد أن انهزم ونزل إلى البحر بفرسه فغرق، وأنه أخرج من النيل ميتا، فوجدوه قد أكل السمك لحم وجهه، فسر السلطان والأمراء بذلك، وخرج البريد فى الوقت بعود الأمراء المجرّدين إلى القاهرة.

(12/214)


ثم فى ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بيسق الشّيخى أمير آخور الثانى بالمحمل، وكان تكلم الناس بعدم سفر الحاج فى هذه السنة ولم يكن لذلك أصل.
ثم ابتدأت الفتنة بين الأمير يشبك الشعبانى الدوادار وبين الأمير سودون من على بك المعروف بطاز الأمير آخور الكبير؛ ووقع بينهما أمور.
فلما كان يوم ثامن عشرين شوّال المذكور منع جميع مباشرى الدولة بديار مصر من النزول إلى بيت الأمير يشبك الدوادار، وذلك أن المباشرين بأجمعهم الكبير منهم والصغير كانوا ينزلون فى خدمة يشبك منذ قدم السلطان من دمشق، فعظم ذلك على سودون طاز، وتفاوض معه فى مجلس السلطان فى كفّه عن ذلك، حتى أذعن يشبك فمنعوا، ثم نزلوا إليه على عادتهم، وصاروا جميعا يجلسون عنده من غير أن يقفوا، وكانوا من قبل يقفون على أقدامهم.
ثم فى ثانى ذى القعدة ورد الخبر على السلطان من حلب بواقعة الامير دمرداش المحمدى نائب حلب مع السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد والعراق.
وخبره أن القان غياث الدين أحمد بن أويس المذكور لما ملك بغداد بعد حضوره إلى الديار المصرية حسب ما تقدّم ذكره فى ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية، فأخذ السلطان أحمد المذكور يسير مع أمرائه ورعيته سيرة سيئة، فركبوا عليه وقاتلوه، وكاتبوا صاحب شيراز «1» فى القدوم عليهم لأخذ بغداد، وخرج ابن أويس منهزما إلى الأمير قرا يوسف يستنجده، فركب معه قرا يوسف وسار إلى بغداد، فخرج إليهما أهل بغداد، وقاتلوهما وكسروهما بعد حروب طويلة، فانهزما إلى شاطئ الفرات، وبعثا يسألان الأمير دمرداش نائب حلب فى نزولهما ببلاد الشام،

(12/215)


ففى الحال استدعى دمرداش دقماق نائب حماة بعساكره إلى حلب فقدم عليه، وخرجا معا فى عسكر كبير وكبسا ابن أويس وقرا يوسف، وهما فى نحو سبعة آلاف فارس، فاقتتلا قتالا شديدا فى يوم الجمعة رابع عشرين شوّال، قتل فيه الأمير جانيبك اليحياوى أتابك حلب، وأسر دقماق المحمدى نائب حماة، وانهزم دمرداش المحمدى نائب حلب، وفرّ فيمن بقى من عسكره إلى حلب، ثم لحقه دقماق بعد أن فدى نفسه بمائة ألف درهم، وحضر الوقعة الأمير سودون من زاده المتوجه بالبشارة إلى البلاد الشامية بسلامة السلطان، وقدم مع ذلك كتب ابن أويس وقرا يوسف على السلطان تتضمن: إنا لم نجئ محاربين، وإنما جئنا مستجيرين مستنجدين بسلطان مصر، على عوائد فضل أبيه الملك الظاهر- رحمه الله- فحاربنا هؤلاء بغتة، فدافعنا عن أنفسنا وإلا كنا هلكنا، فلم يلتفت أهل الدولة إلى كتبهما، وكتبوا إلى نائب الشام بمسيره بعساكر الشام وقتال ابن أويس وقرا يوسف والقبض عليهما وإرسالهما إلى مصر.
هذا وخوند شيرين والدة الملك الناصر فرج مستمرّة السعى فى الإفراج عن الوالد من سجنه بقلعة دمشق، إلى أن أجاب الأمراء إلى ذلك وكتب بالإفراج عنه وعن الأمير آقبغا الجمالى الأطروش نائب حلب فى يوم عرفة من محبسهما بقلعة دمشق، وحملا إلى القدس بطالين بها.
وبينما القوم فى انتظار ما يرد عليهم من أمر السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف، قدم عليهم الخبر من حلب بنزول تيمور لنك على مدينة سيواس «1» ، وأنه حارب سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فانهزم سليمان المذكور إلى أبيه بمدينة برصا «2» ، ومعه قرا يوسف، وأخذ تيمور سيواس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة.

(12/216)


ثم وصلت بعد قليل رسل ابن عثمان إلى الديار المصرية وكتابه يتضمّن اجتماع الكلمة وأن يكون مع السلطان عونا على قتال هذه الطاغية تيمورلنك، ليستريح الإسلام والمسلمون منه، وأخذ يتخضّع ويلحّ فى كتابه على اجتماع الكلمة، فلم يلتفت أحد إلى كلامه، وقالت أمراء مصر يوم ذاك الآن صار صاحبنا، وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب، يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا، وكتب له عن السلطان بمعنى هذا اللفظ، وكان ما قاله أبو يزيد بن عثمان من أكبر المصالح، فانه حدّثنى فيما بعد الأمير أسنباى الظاهرى الزردكاش «1» ، وكان أسره تيمور وحظى عنده وجعله زردكاشه، قال: قال لى تيمورلنك ما معناه: إنه لقى فى عمره عساكر كثيرة وحاربها، لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أن عسكر مصر كان عسكرا عظيما ليس له من يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج، وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب، وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أنه كان أبو يزيد صاحب رأى وتدبير وإقدام، لكنه لم يكن له من العساكر من يقوم بنصرته.
قلت: ولهذا قلت إن المصلحة كانت تقتضى الصلح مع أبى يزيد بن عثمان المذكور، فإنه كان يصيّر للعساكر المصرية من يدبّرها، ويصيّر لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عونا، فكان تيمور لا يقوى [على] مدافعتهم، فإن كلا من العسكرين كان يقوى دفعه لولا ما ذكرناه، فما شاء الله كان.
وبعد أن كتب لابن عثمان بذلك لم يتأهب أحد من المصريين لقتال تيمور، ولا التفت إلى ذلك، بل كان جل قصد كل أحد منهم ما يوصله إلى سلطنة مصر

(12/217)


وإبعاد غيره عنها، ويدع الدنيا تنقلب ظهرا لبطن، فإنه مع ورود هذا الخبر المزعج بلغ السلطان والأمراء أن الأمير قانى باى العلائى الظاهرى أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة يريد إثارة فتنه، فطلبه السلطان وأمره بلبس التشريف بنيابة غزة، فامتنع من لبسه، فأمر السلطان به فقبض عليه وسلم للأمير آقباى الحاجب، فأخذه ونزل إلى داره وأقام عنده إلى آخر النهار، فاجتمع عليه طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه من آقباى الحاجب غصبا، فخاف آقباى وطلع به إلى القلعة، فطلب السلطان الأمراء وتشاوروا على قتله «1» ، فاتفقوا على إبقائه فى إمرته ووظيفته.
[ما وقع من الحوادث سنة 803]
ثم فى خامس عشرين المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة ورد البريد على السلطان من حلب بأخذ تيمور ملطية، ثم وصل من الغد البريد أيضا بوصول أوائل عسكر تيمور لنك إلى مدينة عينتاب، وفى الكتاب: أدركوا المسلمين وإلا هلكوا، فاستدعى السلطان بعد يومين الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة، وعلموا أن تيمور لنك وصلت مقدّمته إلى مرعش وعينتاب، وكان القصد بهذا الجمع أخذ مال التجار إعانة على النفقة فى العساكر، فقال القضاة: أنتم أصحاب الأمر والنهى وليس لكم فيه معارض، وإن كان القصد الفتوى فى ذلك فلا يجوز أخذ مال أحد يخاف على العساكر من الدعاء، فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف من البلاد، نقطعها للأجناد البطّالين، فإن الأجناد «2» قلّت لكثرة الأوقاف، فقال القضاة: وما قدر ذلك؟
ومتى عمدتم على البطّالين فى الحرب، خيف أن يؤخذ الإسلام، وطال الكلام فى ذلك حتى استقر الرأى على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمور لنك، وسار أسنبغا فى خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد، ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء.

(12/218)


هذا وأهل البلاد الشامية فى أمر لا يعلمه إلا الله تعالى، مما داخلهم من الرعب والخوف، وقصد كل واحد أن يرحل من بلده، فمنعه من ذلك حاكم بلده، ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم.
ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدى، وصحبته أيضا كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا «1» ، بعد ما ملك مدينتها، وأنه مستمر على حصارها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب «2» ، ووصل هذا الخبر إلى مصر رابع عشرين صفر المذكور، فوقع الشروع عند ذلك فى حركة سفر السلطان، ثم علق جاليش السفر فى يوم ثالث شهر ربيع الأوّل، وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق فى سابع صفر، فقرأ كتاب السلطان فى الجامع «3» الأموى، وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور، وقدم فى تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء، بأنه قدم فى عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة «4» ، ثم عاد إلى الهند، فبلغه موت الملك الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج «5»

(12/219)


ثم قصد الروم «1» لمّا بلغه قلّة أدب هذا الصبىّ سليمان بن أبى يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه، فتوجه إليه وفعل بسيواس «2» وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم، ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه فى الخطبة، ثم يرجع، وطلب فى الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه، فى دولة الملك الظاهر برقوق، وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين فى ذمتكم، فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه، وأمر بالرسول فوسّط.
وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة؛ فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب، فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر فى ثالث شهر ربيع الأول؛ وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة «3» ظاهر حلب، وقد اجتمع بحلب سائر نوّاب البلاد الشامية، واستحثّ فى خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية، وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمور لنك فى سبعمائة فارس، والتتار فى نحو ثلاثة آلاف فارس، وترامى الجمعان بالنشاب ثم اقتتلوا ساعة، وأخذ شيخ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه، فوسّط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب، وكان الذي اجتمع بها الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها،

(12/220)


ونائب طرابلس شيخ المحمودى المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجّالتها، ونائب حماة دقماق المحمدى بعساكر حماة وعربانها، ونائب صفد ألطنبغا العثمانى بعساكر صفد وعشيرها، ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة، غير أن الكلمة متفرّقة، والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان. انتهى.
وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدى نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب، ويأمره بمسك سودون نائب الشام، فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه، فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب، فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام، وقال لدمرداش:
إن الأمير (يعنى تيمور) لم يأت البلاد إلا بمكاتباتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش لمّا سمع منه هذا الكلام، وقام إليه وضربه، ثم أمر به، فضربت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمور لنك ودهائه ومكره ليفرّق بذلك بين العساكر، فعلم الأمراء ذلك، ولم يقع ما قصده، ومن الحليين جماعة يقولون إلى الآن:
إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال. والله أعلم بصحّة ذلك.
ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور، وتهيّأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره، لعلمهم بعدم رأى مدبّرى مملكة مصر من الأمراء، ولصغر سن السلطان، وقد فات الأمر وهم فى قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه، وكان الاليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس، كما فعل الملك الظاهر برقوق- رحمه الله- فبما تقدّم ذكره.

(12/221)


وبينما النواب فى إصلاح شأنهم للقتال، نزل تيمور بعساكره على قرية جيلان «1» ، خارج حلب فى يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأوّل وأحاط بمدينة حلب، وأصبح من الغد فى يوم الجمعة، زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها، فكانت بين أهل حلب وبينه فى هذين اليومين حروب كثيرة، ومناوشات بالنشّاب والنّفوط والمكاحل، وركب اهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشدّ قتال، فلما اشرقت الشمس يوم السبت حادى عشره خرج نوّاب الشام بجميع عساكرها، وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب، وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور، ووقف سيّدى سودون نائب دمشق بمماليكه، وعساكر دمشق فى الميمنة، ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه، وعساكر حلب فى الميسرة، ووقف بقية النواب فى القلب، وقدّموا أمامهم أهل حلب المشاة، فكانت هذه التعبئة من أيشم «2» التعابئ، هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبئة العساكر، وحال وقوف الجميع فى منازلهم زحف تيمور بجيوش قد سدّت الفضاء، وصدم عساكر حلب صدمة هائلة فالتقاه النوّاب وثبتوا لصدمته أوّلا، ثم انكسرت الميسرة، وثبت سودون نائب الشام فى الميمنة، وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالا عظيما، وبرز الأمير عزّ الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفى وولده يشبك بن أزدمر فى عدّة من الفرسان وقد بذلوا نفوسهم فى سبيل الله، وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وظهر عن

(12/222)


أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعلّه يذكر إلى يوم القيامة، ولم يزل أزدمر يقتحم القوم ويكرّ فيهم إلى أن قتل وفقد خبره فإنه لم يقتل إلّا وهو فى قلب العدوّ، وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته، وصار فى رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره، سوى ما فى بدنه.
ثم أخذ وحمل إلى بين يدى تيمور، فلمّا رأى تيمور ما به من الجراح تعجّب من إقدامه وثباته غاية العجب، وأمر بمداواته، فيما قيل؛ ولم تمض غير ساعة حتى ولّت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب، وركب أصحاب تيمور أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور، حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك فى دخولهم إلى أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضا، حتى صارت الرّمم طول قامة، والناس تمشى من فوقها، وقصد نوّاب المماليك الشامية قلعة «1» حلب وطلعوا إليها، فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب.
هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب فى الحال، وأشعلوا فيها النّيران وأخذوا فى الأسر والنهب والقتل، فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع «2» حلب وبقية المساجد، فمال أصحاب تيمور عليهن، وربطوهن بالحبال أسرى، ثم وضعوا السيف فى الأطفال، فقتلوهم بأسرهم، وشرعوا فى تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصار الأبكار تفتضّ من غير تستّر، والمخدّرات يفسق فيهنّ من غير احتشام، بل

(12/223)


يأخذ التّترى الواحدة ويعلوها فى المسجد والجامع بحضرة الجمّ الغفير من أصحابه ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلّة مقدرته، ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب، ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهى مكشوفة العورة.
ثم بذلوا السيف فى عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى، وجافت حلب، واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل، هذا والقلعة فى أشدّ ما يكون من الحصار والقتال، وقد نقبها عسكر تيمور من عدّة أماكن، وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ.
فتشاور النوّاب والأعيان الذين بالقلعة، فأجمعوا على طلب الأمان، فأرسلوا لتيمور بذلك، فطلب تيمور نزول بعض النوّاب إليه، فنزل إليه دمرداش نائب حلب، فخلع عليه، ودفع إليه أمانا وخلعا إلى النوّاب، وأرسل معه عدّة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب، فطلعوا إليها وأخرجوا النوّاب منها بمن معهم من الأمراء والأعيان، وجعلوا كلّ اثنين فى قيد، وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه، فنظر إليهم طويلا وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام.
ثم أخذ يقرّعهم ويوبّخهم ويلوم سودون نائب الشام فى قتله لرسوله، ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كلّ واحد منهم إلى من يحتفظ به.
ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا، وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة، ففرّقها على أمرائه وأخصّائه، واستمرّ النهب والسبى والقتل بحلب فى كل يوم

(12/224)


مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشا، لا يجد الشخص مكانا يمشى عليه إلّا وتحت رجليه رمّة قتيل. وعمل تيمور من رءوس المسلمين منائر «1» عدّة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع فى دور عشرين ذراعا، حسب ما فيها من رءوس بنى آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس، ولمّا بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمرّ بها.
ثم رحل تيمور «2» من حلب «3» بعد أن أقام بها شهرا، وتركها خاوية على عروشها، خالية من سكّانها وأنيسها، قد خربت وتعطّلت من الأذان والصلوات، وأصبحت خرابا يبابا مظلمة بالحريق موحشة قفرا، لا يأويها إلّا البوم والرّخم. وسار تيمور قاصدا جهة دمشق، فمرّ بمدينة حماة، وكان أخذها ابنه ميران «4» شاه.
وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأوّل المذكور، وأحاط بها بعساكره، بعد أن نهب خارج مدينة حماة، وسبى النساء والأطفال، وأسر الرجال، واستمرّت أيدى أصحابه يفعلون فى النساء

(12/225)


والأبكار تلك الأفعال القبيحة، وخرّبوا جميع ما خرج «1» عن سور المدينة. هذا وقد استعدّ أهل حماة للقتال، وركب الناس سور المدينة، وامتنعوا من تسليم المدينة، وباتوا على ذلك، فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور، ففتحوا له بابا من أبواب المدينة، ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان؛ فقدم الناس عليه، وقدّموا له أنواع المطاعم، فقبلها منهم، وعزم أن يقيم رجلا من أصحابه عليها، فقيل له:
إن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيّمه وبات به.
ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير؛ ومع ذلك فإن قلعة «2» حماة لم يتسلّمها، بل كانت امتنعت عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرّهما بالمدينة، فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها واقتحم البلد، وأشعل النار بها، وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب، غير أنّه كان رفق بأهل حلب، فإنه كان سأل قضاة حلب لمّا صاروا فى أسره عن قتاله، ومن الشهيد [من العسكرين «3» ] ؟ فأجاب محبّ الدين محمد بن محمد بن الشّحنة الحنفىّ «4» بأن قال: سئل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن هذا، فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو الشهيد» ، فأعجبه ذلك وحادثهم، فطلبوا منه أن يعفو عن

(12/226)


أهل حلب، ولا يقتل أحدا؛ فأمّنهم جميعا وحلف لهم، فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.
وأمّا أهل دمشق، فإنه لمّا قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودى فى الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة، والاستعداد لقتال العدوّ المخذول فأخذوا فى ذلك، فقدم عليهم المنهزمون من حماة، فعظم خوف أهلها وهمّوا بالجلاء، فمنعوا من ذلك، ونودى «من سافر نهب» ، فعاد إليها من كان خرج منها، وحصّنت دمشق، ونصبت المجانيق «1» على قلعة دمشق، ونصبت المكاحل «2» على أسوار المدينة، واستعدّوا للقتال استعدادا جيّدا إلى الغاية.
ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب «3» الغيبة بدمشق ليتسلّموا منه دمشق، فهمّ نائب الغيبة بالفرار، فردّه العامّة ردّا قبيحا، وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها، واستغاث النساء والصّبيان، وخرجت النساء حاسرات لا بعرفن أين يذهبن، حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد.
وقدم الخبر فى أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشاميّة، ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان.

(12/227)


وأمّا أمراء الديار المصريّة فإنه لمّا كان ثامن عشر شهر ربيع الأوّل وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيّام، فرقّت الجماكى «1» على المماليك السلطانيّة بسبب السفر.
ثم فى عشرينه نودى على أجناد «2» الحلقة بالقاهرة أن يكونوا فى يوم الأربعاء ثانى عشرينه فى بيت الأمير يسك الشّعبانى الدّوادار «3» للعرض عليه.
ثم فى خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب، وأنه يحاصر قلعتها، فكذّبوا ذلك، وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه، ووقع الشروع فى النفقة، فأخذ كلّ مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم.
ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن فى ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر.
ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقينى وقضاة القضاة والأمير آقباى الحاجب «4» ، ونودى بين أيديهم: «5» «الجهاد فى سبيل الله تعالى لعدوّكم الأكبر تيمورلنك، فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب وقتّل الأطفال على صدور الأمّهات، وأخرب الدّور والجوامع والمساجد، وجعلها إسطبلات للدوابّ، وأنّه قاصدكم، يخرّب

(12/228)


بلادكم، ويقتّل رجالكم؛ فاضطربت القاهرة لذلك، واشتدّ جزع الناس، وكثر بكاؤهم وصراخهم، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فى أعيان الدولة.
واستهلّ شهر ربيع الآخر «1» ، فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الحاجب «2» وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها باتفاق دمرداش، وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق «3» يخلّى بين الناس وبين الخروج من دمشق، فإن الأمر صعب، [وإن النائب لم يمكّن أحدا من السير «4» ] فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالرّيدانيّة بأمرائه وعساكره [والخليفة «5» ] والقضاة، وتعيّن الأمير تمراز الناصرىّ أمير مجلس لنيابة الغيبة بالديار المصريّة، وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض فى عدّة أخر، وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة، وفى تحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسّفر.
ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاى من خجا على رأس نوبة النّوب كان فى نيابة الإسكندريّة «6» بعد موت نائبها فرج الحلبى.

(12/229)


وكان أرسطاى منذ أفرج عنه بطّالا بالإسكندريّة، فوردت عليه الولاية وهو بها، وأخذ الأمير تمراز فى عرض أجناد الحلقة، وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلىّ والبحرىّ لقتال تيمور، كلّ ذلك والسلطان بالرّيدانيّة.
ثم خرج الجاليش فى بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر، وفيه من أكابر الأمراء مقدّمى الألوف: الأتابك بيبرس، والأمير نوروز الحافظى رأس نوبة الأمراء، والامير بكتمر الركنى أمير سلاح، وآقباى حاجب الحجّاب، ويلبغا الناصرى، وإينال باى بن قجماس، وعدّة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.
ثم رحل السلطان ببقيّة الأمراء والعساكر من الرّيّدانيّة يريد جهة الشام لقتال تيمور لنك، وسار حتى نزل بغزّة فى يوم عشرين من الشهر، واستدعى بالوالد وآقبغا

(12/230)


الجمالىّ الأطروش نائب حلب كان من القدس، وأخلع على الوالد باستقراره فى نيابة دمشق عوضا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور، وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى.
وخلع على الأمير آقبغا الجمالى الأطروش باستقراره فى نيابة طرابلس عوضا عن شيخ المحمودىّ بحكم أسره مع تيمور أيضا، وعلى الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد عوضا عن ألطنبغا العثمانى بحكم أسره، وعلى طولو «1» من على باشاه باستقراره فى نيابة غزّة عوضا عن عمر بن الطحّان، وعلى صدقة بن الطويل باستقراره فى نيابة القدس، وبعث الجميع إلى ممالكهم.
وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء: عندى رأى أقوله، وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان، فقيل له: وما هو؟ فقال: الرأى أن السلطان لا يتحرّك هو ولا عساكره من مدينة غزّة، وأنا أتوجّه إلى دمشق وأحرّض أهلها على القتال، وأحصّنها- وهى بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان، وبها ما يكفى أهلها من الميرة «2» سنين، وقد داخل أهلها أيضا من الخوف ما لا مزيد عليه، فهم يقاتلون قتال الموت- وتيمور لا يقدر على أخذها منّى بسرعة، وهو فى عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق لمكث بهم بمكان واحد مدّة طويلة، فإما أنه يدع دمشق ويتوجّه نحو السلطان إلى غرّة، فيتوغّل فى البلاد ويصير بين عسكرين، وأظنه لا يفعل ذلك، وإمّا أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره

(12/231)


بالبلاد الشامية، وقلّة ما فى طريقه من الميرة لخراب البلاد، ويركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أقفية التّمرية إلى الفرات، فيظفر منهم بالغرض وزيادة»
، فاستصوب ذلك جميع الناس، حتى تيمور عند ما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق، وما بقى إلا أن يرسم بذلك، تكلّم بعض جهّال الأمراء مع بعض فى السرّ ممّن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم، وقال: تقتلوا رفقته وتسلّموه الشام، والله ما قصده إلّا أن يتوجّه إلى دمشق، ويتّفق مع تيمور ويعود يقاتلنا، حتى ياخذ منّا ثأر رفقته، وكان نوروز الحافظى بإزاء الوالد، فلمّا سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد، فأشار إليه بالسّكات والكفّ عن ذلك، وانفضّ المجلس، وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه، وتوجّه إلى دمشق، فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق، وقد جفل أهل دمشق لمّا بلغهم قرب تيمور إلى دمشق فأخذ الوالد فى إصلاح أمر «2» دمشق، فوجد أهلها فى غاية الاستعداد، وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعا، فتأسّف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه ولم يسعه إلّا السّكات.
ثم رحل جاليش السلطان من غزّة فى رابع عشرين شهر ربيع الآخر، ثم رحل السلطان ببقيّة عسكره من غزّة فى سادس عشرينه، وسار الجميع حتى وافوا دمشق.
وكان دخول السلطان دمشق فى يوم الخميس سادس جمادى الأولى، وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته، وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه، فنزل من قلعة دمشق

(12/232)


وخرج بعساكره إلى مخيّمه عند قبة «1» يلبغا ظاهر دمشق، وتهيّأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصّرت المماليك الظاهريّة أرماحهم حتى يتمكّنوا من طعن التّمرية أولا بأوّل لازدرائهم عساكر تيمور.
فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثّلج «2» فى نحو الألف فارس، فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة، بدّدوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة، وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا.
ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمريّة وأخبروا بنزول تيمور على البقاع «3» العزيزى فلتكونوا على حذر، فإن تيمور كثير الحبل والمكر، فاحترز القوم منه غاية الاحتراز.

(12/233)


ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمّن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز «1» وأولاد شهرى اتّفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمريّة، وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس، وأن تيمور بعث عسكرا إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر، وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نيّة المسير إلى طاعة السلطان.
وكان ذلك من مكايد تيمور، ثم قال: وإن صاحب قبرص «2» وصاحب الماغوصة «3» وغيرهم وردت كتبهم بانتظار الإذن لهم فى تجهيز المراكب فى البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان، فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب، وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة.
ثم فى يوم السبت نزّل تيمور بعساكره على قطنا «4» ، فملأت عساكره الأرض كثرة، وركب طائفة منهم لكشف الخبر، فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيّئوا للقتال وصفّت العساكر السلطانيّة، فبرز إليهم التمريّة وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كلّ من العسكرين ساعة، فكانت بينهم وقعة انكسر فيها ميسرة السلطان، وانهزم

(12/234)


العسكر الغزّاوىّ وغيرهم إلى ناحية حوران «1» ، وجرح جماعة، وحمل تيمور بنفسه حملة «2» شديدة ليأخذ فيها دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه.
ونزل كلّ من العسكر بن بمعسكره، وبعث تيمور إلى السلطان فى طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم فى وقعة حلب، فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركى فى قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلّا القتال.
ثم أرسل تيمور رسولا آخر فى طلب الصّلح، وكرّر القول ثانيا، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صدق مقالته، وأن ذلك على حقيقته، فأبى الأمراء ذلك، هذا «3» والقتال مستمرّ بين الفريقين فى كلّ يوم.
فلما كان ثانى عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانيّة جماعة، منهم الأمير سودون الطيّار، وقانى باى العلائى رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكيّة يشبك العثمانى وقمش «4» الحافظى وبرسبغا الدوادار وطرباى فى جماعة أخر، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن فى الوظائف والإقطاعات والتحكّم فى الدولة، وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن، وأخذوا فى الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم.

(12/235)


هذا وتيمور فى غاية الاجتهاد فى أخذ دمشق وفى عمل الحيلة فى ذلك.
ثم أعلم بما الأمراء فيه، فقوى أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعدّ لذلك.
ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجّهوا جميعا إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاچين الچركسى أحد الأجناد البرّانيّة؛ فعظم ذلك على مدبّرى المملكة لعدم رأيهم، وكان ذلك عندهم أهمّ من أمر تيمور، واتّفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة «1» ، وعوده إلى الديار المصرية فى الليل، ولم يعلموا بذلك إلّا جماعة يسيرة، ولم يكن أمر لاچين يستحقّ ذلك، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفى السلطان أمرهم، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.
فلما كان آخر ليلة الجمعة حادى عشرين جمادى الأولى «2» ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة «3» دمّر يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعيّة من المسلمين غنما بلا راع، وجدّوا فى السير ليلا ونهارا حتى وصلوا إلى مدينة صفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكى وأخذوه معهم «4» ، وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها، وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر- عليهم

(12/236)


من الله ما يستحقّوه- بمدينة غزّة، فكلّموهم فيما فعلوه، فاعتذروا بعذر غير مقبول فى الدنيا والآخرة؛ فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
وأما بقيّة أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لمّا علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا فى الحال فى إثره طوائف طوائف يريدون اللّحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير، وسلبوهم «1» ، وقتلوا منهم خلقا كثيرا.
أخبرنى غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا فى الحال، غير أنه لم يعقنا عن اللّحاق به إلا «2» كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق ممارمتها المماليك السلطانيّة ليخفّ ذلك عن خيولهم، فمن كان فرسه ناهضا خرج، وإلّا لحقه أصحاب تيمور وأسروه، فممّن أسروه قاضى القضاة صدر الدين المناوىّ «3» ومات فى الأسر حسبما يأتى ذكره فى الوفيات «4» وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانيّة وغيرهم إلى القاهرة فى أسوإ حال من المشى

(12/237)


والعرى والجوع، فرسم السلطان لكلّ من المماليك السلطانية المذكورين بألف درهم وجامكيّة شهرين.
وأمّا الأمراء فإنهم دخلوا إلى مصر وليس مع كلّ أمير سوى مملوك أو مملوكين، وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق؛ فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لمّا بلغهم توجّه السلطان من دمشق، وأخذ كلّ واحد ينجو بنفسه.
وأما العساكر الّذين خلّفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيّين والحمويّين والحمصيّين وأهل القرى ممّن خرج جافلا من تيمور.
ولمّا أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلّقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادوا بالجهاد، فتهيّأ أهل دمشق للقتال، وزحف عليهم تيمور بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدّ قتال، وردّوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدّة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم فى زيادة فأعيا تيمور أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ فى مخادعتهم، وعمل الحيلة فى أخذ دمشق منهم.
وبينما أهل دمشق فى أشدّ ما يكون من القتال والاجتهاد فى تحصين بلدهم، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد: «الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلا عاقلا حتى يحدّثه الأمير فى ذلك» .

(12/238)


قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزّة فى نيابة دمشق، وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوّة لدفع تيمور عن دمشق، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرّزق، وهى فى الغاية من التحصين، وأنه يتوجّه إليها ويقاتل بها تيمور، فلم يسمع له أحد فى ذلك، فلعمرى لو رأى من لا أعجبه «1» كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدّة بأسهم وهم بغير نائب ولا مدبّر لأمرهم، فكيف ذاك لو كان عندهم متولّى أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير. انتهى.
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور فى الصلح وقع اختيارهم فى إرسال قاضى القضاة تقى الدّين إبراهيم بن [محمد بن «2» ] مفلح الحنبلى، فأرخى من سور دمشق إلى الأرض، وتوجّه إلى تيمور واجتمع به وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه، وتلطّف معه فى القول، وترفق له فى الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عنّى وعن أولادى، ولولا حنقى من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولى ما أتيتها، وقد صار سودون المذكور فى قبضتى وفى أسرى، وقد كان الغرض فى مجيئى إلى هنا، ولم يبق لى الآن غرض إلا العود، ولكن لا بدّ من أخذ عادتى من التّقدمة من الطّقزات.
وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحا يخرج إليه [أهلها «3» ] من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدوابّ والملابس والتّحف تسعة؛ يسمّون ذلك طقزات، والطّقز باللّغة التركيّة: تسعة، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا.

(12/239)


فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذّل الناس عن القتال ويثنى على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيما، ويكفّ أهل دمشق عن قتاله، فمال معه طائفة من الناس، وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلّا قتاله، وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا نهار السّبت وقد غلب رأى ابن مفلح على من خالفه، وعزم على إتمام الصلح، ونادى فى الناس: إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه؛ فكفّ الناس عن القتال.
وفى الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق فى طلب الطقزات المذكورة، فبادر ابن مفلح، واستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار، حمل ذلك كلّ أحد بحسب حاله، فشرعوا فى ذلك حتى كمل، وساروا به إلى باب النصر «1» ليخرجوا به إلى تيمور، فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك، وهدّدهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا له: [أنت «2» ] احكم على قلعتك، ونحن نحكم على بلدنا، وتركوا باب النصر وتوجهوا، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور، وتدلّى ابن مفلح من السور أيضا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيّم تيمور، وباتوا به ليلة الأحد، وعادوا بكرة الأحد، وقد استقرّ تيمور بجماعة منهم فى عدّة وظائف: ما بين قضاة القصاة، والوزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، معهم فرمان من تيمور لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمّن أمان أهل دمشق على أنفسهم

(12/240)


وأهليهم خاصّة؛ فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بنى أمية بدمشق، وفتح من أبواب دمشق باب الصغير «1» فقط، وقدم أمير من أمراء تيمور، جلس فيه ليحفظ البلد ممّن يعبر إليها من عساكر تيمور، فمشى ذلك على الشاميّين وفرحوا به، وأكثر ابن مفلح ومن كان توجّه معه من أعيان دمشق الثّناء على تيمور وبثّ محاسنه وفضائله، ودعا العامّة لطاعته وموالاته، وحثّهم بأسرهم على جمع المال الّذى تقرّر لتيمور عليهم، وهو ألف ألف دينار، وفرض ذلك على الناس كلّهم، فقاموا به من غير مشقّة لكثرة أموالهم، فلمّا كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه، فلمّا عاينه غضب غضبا شديدا، ولم يرض به، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فأخرجوا من وجهه، ووكّل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار [من الذّهب «2» ] ، إلّا أنّ سعر الذهب عندهم يختلف، وعلى كلّ حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوها ثانيا على الناس [كلّها «3» ] عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر، وألزموا كلّ إنسان من ذكر وأنثى حرّ وعبد بعشرة دراهم، وألزم

(12/241)


مباشر كلّ وقف «1» بحمل مال له جرم، فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم، وعوقب كثير منهم بالضّرب «2» ، فغلت الأسعار، وعزّ وجود الأفوات، وبلغ المدّ القمح- وهو أربعة أقداح- إلى أربعين درهما فضّة، وتعطّلت صلاة الجمعة»
من دمشق فلم تقم بها جمعة إلّا مرتين حتى دعى بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولىّ عهده ابن الأمير «4» تيمور لنك، وكان السلطان محمود مع تيمور آلة، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلّا من يكون من ذرّية الملوك. انتهى.
ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور.
ثمّ بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق، كلّ ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمور تحاصره أشدّ حصار، حتى سلّمها بعد تسعة وعشرين يوما، وقد رمى عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر، يكفيك أن التمريّة من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب، فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها

(12/242)


ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة، رمى أهل قلعة دمشق نفطا فأحرقوها عن آخرها، فأنشئوا قلعة ثانية أعظم من الأولى «1» وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة.
هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلّا نفر يسير «2» دون الأربعين نفرا، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النّجدة، وطلبوا الأمان، وسلّموها بالأمان.
قلت: لا شلّت يداهم! هؤلاء هم الرجال الشجعان. رحمهم الله تعالى.
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا إنما هو يسوى ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد بقى عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لى أنكم عجزتم.
وكان تيمور لما اتفق أوّلا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور، فخرج إليه ابن مفلح بأموال اهل مصر جميعها «3» ، فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرّوا من دمشق، فسارعوا أيضا إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه، فلما

(12/243)


كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما فى البلد من السلاح جليلها وحقيرها، فتتبّعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شىء، فلمّا فرغ ذلك كلّه قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرّقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كلّ أمير فى قسمه وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضّرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوسا، وغمّ «1» الأنف بخرقة فيها تراب ناعم كلّما تنفّس دخل فى أنفه حتى تكاد نفسه تزهق، فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلّى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعا، فكان المعاقب يحسد رفيقه الّذى هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتنى أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا كلّه تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذّب امرأته أو بنته وهى توطأ، وولده وهو يلاط به، يصرخ «2» هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللّواط، وكل ذلك من غير تستّر فى النهار بحضرة الملأ من الناس. ورأى أهل دمشق أنواعا من العذاب لم يسمع بمثلها؛ منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشدّ رأسه بحبل ويلويه «3» حتى يغوص فى رأسه، ومنهم من كان يضع الحبل بكتفى الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان، ومنهم من كان يربط إبهام يدى المعذّب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويذرّ فى منخريه

(12/244)


الرّماد مسحوقا، فيقرّ على «1» ما عنده شيئا بعد شىء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدّقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرّر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقب ميّتا مخافة أن يتماوت. ومنهم من كان يعلّق المعذّب بإبهام يديه فى سقف الدار ويشعل النار تحته، ويطول تعليقه، فربمّا يسقط فيها، فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق، ثم يعلّقه ثانيا.
واستمرّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوما، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة، فهلك فى هذه المدّة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلّا الله تعالى.
فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شىء خرجوا إلى تيمور، فسألهم: هل بقى لكم تعلّق فى دمشق؟ فقالوا: لا؛ فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق على أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدّور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهنّ، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين فى الحبال.
ثم طرحوا النار فى المنازل والدّور والمساجد، وكان يوم عاصف الريح، فعمّ الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار فى البلد ثلاثة أيّام بلياليها آخرها يوم الجمعة.
وكان تيمور- لعنه الله- سار من دمشق فى يوم السبت ثالث شهر شعبان «2» بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوما، وقد احترقت كلّها وسقطت سقوف جامع بنى أميّة

(12/245)


من الحريق، وزالت أبوابه وتفطّر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها «1» وحمّاماتها وصارت أطلالا بالية ورسوما خالية، ولم يبق بها [دابة تدبّ «2» ] إلّا أطفال يتجاوز عددهم [آلاف «3» ] فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع.
وأمّا السلطان [الملك الناصر «4» فرج] فإنّه أقام بغزّة ثلاثة أيام، وتوجّه إلى الدّيار المصريّة بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية، فقدم إلى القاهرة فى يوم الاثنين ثانى جمادى الآخرة، وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزّة، فارتجّت القاهرة، وكادت عقول الناس تزهق، وظنّ كلّ أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور، وأنّ تيمور فى أثره، وأخذ كلّ أحد يبيع ما عنده ويستعدّ للهروب من مصر، وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالا.
فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونوّاب البلاد الشامية، ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية، وقيل نحو الخمسمائة.
ثم فى يوم السبت سابع جمادى الآخرة المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة، وتقدمة «5» ألف بالدّيار المصريّة كانت موفّرة فى الديوان السلطانىّ، بعد استعفائه

(12/246)


من نيابة دمشق، وعيّن السلطان لنيابة «1» دمشق آقبغا الجمالى الأطروش، ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة «2» .
ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمىّ الأستادار «3» أن يتحدّث فى جميع ما يتعلّق بالمملكة، وأن يجهّز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور، فشرع يلبغا السالمى المذكور فى تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضى مصر فرائض من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان، وأخباز الأجناد «4» ، وبلاد الأوقاف عن عبرة كلّ ألف دينار خمسمائة درهم فضّة وفرس.
ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهر هما أجرة شهر، حتى إنه كان يقوّم على الإنسان داره التى يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها، وأخذ من الرزق، وهى الأراضى التى يأخذ مغلّها قوم على سبيل البرّ والصدقة عن كل فدّان عشرة دراهم، وكان يوم ذاك أجرة الفدّان من ثلاثين درهما إلى ما دونها.
قلت: أخذ نصف خراجها بدورة دارها، وأخذ من الفدّان القصب أو القلقاس أو النّيلة من القنطار مائة درهم، وهى نحو أربعة دنانير، وجبى من البساتين عن كلّ فدان مائة درهم.

(12/247)


ثم استدعى أمناء «1» الحكم والتجّار وطلب منهم المال على سبيل القرض، وصار يكبس الفنادق والحواصل فى الليل، فمن وجده «2» حاضرا فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد، وهى الذهب والفضّة والفلوس، وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهى الذهب والفضة والفلوس، وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف، ومع ذلك فإن الصّيرفىّ يأخذ عن كل مائة درهم ثلاثة دراهم «3» ، ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيبا أخذ عشرة دراهم؛ قاله الشيخ تقىّ الدين المقريزى رحمه الله، قال: فاشتدّ ما بالناس، وكثر دعاء الناس على السالمىّ.
قلت: وبالجملة فهم أحسن حالا من أهل دمشق، وإن أخذ منهم نصف مالهم، وأيش «4» يعمل السالمىّ! مسكين، وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور. انتهى.
ثمّ خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظى وعلى الأمير يشبك الشعبانى، واستقرّا مشيرى الدّولة ومدبّرى أمورها.
ثمّ فى ثالث عشره خلع على القاضى أمين الدين عبد الوهاب بن قاضى القضاة شمس الدين محمد الطرابلسى [قاضى العسكر باستقراره «5» ] قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضى القضاة جمال الدين يوسف الملطى، وعلى القاضى

(12/248)


جمال الدين عبد الله الأقفهسى «1» باستقراره قاضى قضاة المالكيّة بالديار المصرية عوضا عن القاضى نور الدين علىّ بن الجلال بحكم وفاته.
وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلثمائة مملوك بأسوإ حال: من المشى والعرى والجوع.
ثم فى حادى عشرينه حضر إلى القاهرة قاضى القضاة موفّق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلىّ من دمشق بأسوإ حال، وقدم أيضا قاضى قضاة دمشق علاء الدين على بن أبى البقاء الشافعىّ، وحضر كتاب تيمور لنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانيّة يتضمّن طلب أطلمش «2» ، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنوّاب وغيرهم، وقاضى القضاة صدر الدين المناوى الشافعى، ويرحل عن دمشق، فطلب أطلمش من البرج بالقلعة، وأطلق وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير، وعيّن للسفر معه قطلوبغا «3» العلائى، والأمير محمد بن سنقر.
ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخى الأمير آخور رسولا من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر، هذا ويلبغا السالمى يجدّ فى تحصيل الأموال، وأخذ فى عرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم «4» قادرا على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور، وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل، أو تحصيل نصف مغلّه

(12/249)


فى السّنة، وألزم أرباب الغلال المحضّرة للبيع فى المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كلّ إردب درهم [وأن «1» يؤخذ من كلّ مركب من المراكب التى تسير «2» فيها الناس مائة درهم] .
ثم «3» فى يوم الثلاثاء أوّل شهر رجب أمر السالمىّ أن تضرب دنانير «4» مازنة الدينار مائة مثقال ومثقال، ومنها ما زنته تسعون مثقالا ومثقال، ثم ما دون ذلك، إلى أن وصل منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.
ثم فى ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبى كمّ باستقراره وزيرا بديار مصر عوضا عن فخر الدين ماجد بن غراب.
ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمّدى نائب حلب تخلّص من تيمور، وجمع جموعا من التركمان، وأخذ حلب وقلعتها»
من التمريّة، وقتل منهم جماعة كبيرة.
ثم خلع السلطان على شاهين الحلبى نائب مقدّم المماليك باستقراره فى تقدمة المماليك السلطانية عوضا عن صواب المعروف بچنكل، واستقرّ الطواشى فيروز من جرجى مقدّم الرّفرف نائب المقدّم.

(12/250)


ثم حضر فى سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستّة آلاف فارس، وحضر من عربان الشرقيّة من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس، ومن العيساويّة وبنى وائل ألف وخمسمائة فارس، فأنفق فيهم يلبغا السالمى الأموال ليتجهّزوا لحرب تيمور.
ثم حضر فى ثامنه قاصد الأمير نعير، وذكر أنه جمع عربانا كثيرة ونزل بهم على تدمر «1» ، وأنّ تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيّفة «2» .
هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمى والعمل فى زواله حتى تمّ لهم ذلك.
فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمى وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولى الوزر قبل تاريخه، وسلّما لسعد الدين إبراهيم بن غراب ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس فى الجبايات.

(12/251)


قلت: فصار حاله كالمثل السائر «أفقرنى فيمن «1» أحبّ ولا استغنى» .
ثم فى ثامن عشره استقرّ سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستادارا عوضا عن السالمى مضافا لما بيده من وظيفتى نظر الجيش والخاصّ.
ثم فى خامس «2» شعبان برز الأمراء المعيّنون للسفر لقتال تيمور بمن عيّن معهم من المماليك السلطانيّة وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة، وهم الّذين كانوا بالقاهرة فى غيبة السلطان بدمشق، وتقدّم الجميع الأمير تمراز الناصرىّ الظاهرىّ أمير مجلس، والأمير آقباى من حسن شاه الظاهرى حاجب الحجّاب، ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخى، والأمير تمان تمر والأمير صوماى الحسنى، وامتنع الأمير جكم من السّفر.
وفى اليوم «3» قدم الأمير شيخ المحمودىّ نائب طرابلس فارّا من أسر تيمور إلى الديار المصرية، وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده، فرسم السلطان بإبطال السفر، ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة.
ثم «4» فى الغد قدم دقماق المحمّدى نائب حماة فارّا أيضا من تيمور.
وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره فى نيابة دمشق ثانيا على كره منه، وكانت شاغرة من يوم قدوم تيمور دمشق.

(12/252)


ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودى باستقراره فى نيابة طرابلس على عادته، وعلى الأمير دقماق المحمّدى باستقراره فى نيابة حماة على عادته.
ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكى باستقراره فى نيابة صفد وعلى الأمير تنكزبغا الحططى بنيابة بعلبكّ.
ثم نودى بالقاهرة ألّا يقيم «1» بها أحد من الأعاجم، وأمهلوا ثلاثة أيّام، وهدّد من تخلّف منهم بالقاهرة، فلم يخرج أحد، وأكثر الناس من الكتابة فى الحيطان:
«من نصرة الإسلام، قتل الأعجام» ، كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة.
وأما البلاد الشاميّة فحصل بها جراد عظيم بعد خروج اللّنك «2» منها، فزادت خرابا على خراب «3» .
قلت: ولنذكر هنا نبذة يسيرة من أخبار تيمور لنك ونسبه وكثرة عساكره وعظم دهائه ومكره؛ ليكون الناظر فى «4» هذا الكتاب على علم من أخباره وأحواله، وإن كان فى ذلك نوع تطويل وخروج عن المقصود، فهو لا يخلو من فائدة.

(12/253)


فنقول: هو تمرلنك وقيل تيمور؛ كلاهما بمعنى واحد، والثانى أفصح. [وهو «1» ] باللغة التركية الحديد «2» بن أيتمش قنلغ بن زلكى بن سنيا بن طارم طربن طغريل بن قليج ابن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا «3» بن التاخان المغولىّ الأصل التركىّ من طائفة جغتاى الطاغية تيمور، كوركان، أعنى باللغة العجمية «4» صهر الملوك «5» .
مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمّى خواجا أيلغار «6» من عمل كشّ «7» أحد مدائن ما وراء النهر، وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد، ويقال:

(12/254)


إنه رؤى يوم «1» ولد كأن شيئا يشبه الخوذة تراءى طائرا فى جوّ السماء، ثم وقع إلى الأرض فى فضاء كبير، فتطاير منه جمر وشرر حتى ملأ الأرض. وقيل: إنه لما خرج من بطن أمّه وجدت كفّاه مملوءتين دما، فوجدوا أنه تسفك على يديه الدماء.
قلت: وكذا وقع.
وقيل: إن والده كان إسكافا. وقيل: بل كان أميرا عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ «2» ، وكان أحد أركان دولته، وإن أمه من ذريّة جنكزخان.
وقيل: كان للسلطان حسين المذكور أربعة وزراء، فكان أبو تيمور أحدهم، وولى تيمور بعد موته مكانه عند السلطان حسين. وأصل تيمور من قبيلة برلاص.
وقيل: إن أوّل ما عرف من حال تيمور أنه كان يتجرّم «3» ، فسرق فى بعض الليالى غنمة «4» وحملها ليهرب بها، فانتبه الراعى وضربه بسهم فأصاب كتفه، ثم ردفه بآخر فلم يصبه، ثم بآخر فأصاب فخذه وعمل فيه الجرح الثانى الذي فى فخذه حتى عرج منه؛ ولهذا سمى تمرلنك، لأن «لنك» باللغة العجميّة أعرج، وأما اسمه الحقيقىّ ف (تمر) بلا «لنك» ، فلما أعرج [تمر «5» ] أضيف إليه «لنك» .
ولما تعافى أخذ فى التجرّم على عادته وقطع الطريق، وصحبه فى تجرّمه جماعة عدّتهم أربعون رجلا.

(12/255)


وكان تيمور لنك يقول لهم فى تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا؛ فيسخر منه بعضهم، ويصدّقه البعض، لما يرونه من شدّة حزمه وشجاعته.
وقيل: إنه تاه فى بعض تجرّماته مدّة أيام إلى أن وقع على خيل السلطان حسين المقدّم ذكره، فأنزله الجشارىّ صاحب مرج الخيل «1» عنده، وعطف عليه وآواه وأتى إليه بما يحتاجه من طعام وشراب. وكان لتيمور معرفة تامّة فى جياد الخيل فأعجب الجشارىّ منه ذلك، فاستمرّ به عنده إلى أن أرسل معه بخيول إلى السلطان حسين وعرّفه به، فأنعم عليه وأعاده إلى الجشارى، فلم يزل عنده حتّى مات، فولّاه السلطان حسين عوضه على جشاره، ولا زال يترقّى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء. وتزوّج بأخت السلطان حسين، وأقام معها مدّة إلى أن وقع بينهما فى بعض الأيّام كلام، فعايرته بما كان عليه من سوء الحال، فقتلها وخرج هاربا، وأظهر العصيان على السلطان حسين، واستفحل أمره، واستولى على ما وراء النهر «2» ، وتزوّج ببنات ملوكها، فعند ذلك لقّب ب «بكوركان» ، وقد تقدم الكلام على اسم كوركان. ولا زال أمره ينمو وأعماله تتّسع إلى أن خافه السلطان حسين، وعزم على قتاله، وبلغه ذلك فخرج هاربا «3» .

(12/256)


ثم قوى أمره بعد سنة ستّين وسبعمائة، فلمّا كثر عسكره بعث إلى ولاة بلخشان «1» وكانا أخوين قد ملكا بعد موت أبيهما يدعوهما إلى طاعته؛ فأجاباه، وكانت المغل قد نهضت من جهة الشرق على السلطان حسين، وكان كبيرهم الخان قمر الدين فتوجّه السلطان حسين إليهم وقاتلهم، فأرسل تيمور يدعوهم إليه، فأجابوه ودخلوا تحت طاعته، فقويت بهم شوكته.
ثم قصده «2» السلطان حسين ثانيا فى عسكر عظيم حتى وصل إلى ضاغلغا «3» ، وهو موضع ضيّق يسير الراكب فيه ساعة، وفى وسطه باب إذا أغلق وأحمى لا يقدر عليه أحد، وحوله جبال عالية، فملك العسكر فم هذا الدّربند من جهة سمرقند، ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر، وفى ظن العسكر أنهم حصروه وضيقوا عليه، فتركهم ومضى فى طريق مجهولة، فسار ليلة فى أو عار مشقة حتى أدركهم فى السحر وقد شرعوا فى تحميل أثقالهم، على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفا منهم، فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم [وتركوها ترعى فى تلك «4» المروج وناموا كأنهم من جملة العسكر فمرت بهم خيولهم] وهم يظنون أنهم منهم قد قصدوا الراحة، فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم، وهم يصيحون وأيديهم تدقهم دقا بالسيوف، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوى أحد على أحد، حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تمر [لنك «5» ] على ما كان معه، ولمّ «6»

(12/257)


من بقى من العسكر عليه، فعظم جمعه، وكثر ماله، واستولى على الممالك «1» ، ولا زال حتى قبض على السلطان حسين بعد أن أمّنه وقتله، فهذا أوّل عظمته.
والثانية واقعته مع تقتمش «2» خان ملك التتار، فإنه لما واقعه بأطراف تركستان «3» قريبا من نهر خجند «4» ، واشتد الحرب بينهما وكثرت القتلى فى عسكر تيمور حتى كادت تفنى، وعزم تيمور على الهزيمة، فإذا هو بالمعتقد السيد الشريف بركة قد أقبل على تيمور، فقال له تيمور وقد جهده البلاء: يا سيّدى جيشى انكسر، فقال له السيد الشريف بركة المذكور: لا تخف، ثم نزل عن فرسه وتناول كفّا من الحصى ثم ركب فرسه ورمى بها فى وجوه جيش تقتمش وصرخ قائلا بأعلى صوته «ياغى قجتى» . يعنى باللّغة التركية العدوّ هرب «5» ، فصرخ بها أيضا تيمور كمقالة الشريف بركة

(12/258)


فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعد ما كانوا ولّوا هاربين «1» ، فكّر بهم تيمور ثانيا فى عسكر تفتمش وما منهم أحد إلا وهو يصرخ «ياغى قجتى» ، فانهزم عند ذلك عسكر تقتمش خان وركبت التمرية أقفيتهم وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر، فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان.
والثالثة واقعته مع شيره «2» على صاحب مازندران «3» وكيلان «4» وبلاد الرىّ «5» والعراق وكسره وقبض عليه وقتله وملك جميع بلاده، ثم قصته مع شاه شجاع صاحب شيراز «6» وتزوّج «7» بنت شاه شجاع لابن تيمور، ومهادنة شاه شجاع له إلى أن مات شاه شجاع، واختلفت أولاده وقوى شاه منصور على اخوته فمشى عليه تيمور هذا، فلقيه شاه منصور فى ألفى فارس لا غير.

(12/259)


وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة، فإنه برز إليه فى ألفى فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف.
وعند ما برز له شاه منصور فر من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين «1» إلى تيمور بأكثر العساكر، فبقى شاه منصور فى أقل من ألف فارس، فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل.
ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره، فركب شاه منصور فى الليل «2» وبيّت التمرية، فقتل منهم نحو العشرة آلاف فارس.
ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس، فأصبح وقاتل بهم من الغد وقصد بهم تيمور حتى أزاله عن موقفه، وهرب تيمور واختفى بين حرمه، فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلّت يداه وقتلت أبطاله، فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى، فعرفه «3» بعض التمرية فقتله، وأتى برأسه إلى تيمور، فقتل تيمور قاتله أسفا عليه. واستولى تيمور أيضا على جميع ممالك العجم بأسرها بعد شاه منصور.

(12/260)


هذا وقد استوعبنا واقعة شاه منصور «1» بأوسع من ذلك فى تاريخنا (المنهل الصافى) .
إذ هو كتاب تراجم.
ثم أخذ تيمور فى الاستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين «2» ، وهرب منه السلطان أحمد بن أويس، وأخرب غالب العراق: مثل بغداد «3» والبصرة «4» والكوفة «5» وأعمالهم، ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر «6» ، وأخرب بها أيضا عدّة بلاد.
ثم قصد البلاد الشاميّة فى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ثم رجع خائفا من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده، فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد، وأن أمر الناس بمدينة دلّى «7» فى اختلاف، وأنه جلس على تخت الملك بدلّى وزير يقال له ملّو

(12/261)


فخالف عليه أخو فيروز شاه، واسمه سارنك خان متولّى مدينة مولتان «1» ، فلمّا سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند فى ذى الحجّة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستّة أشهر، وكان فى عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها.
ثم سار تيمور إلى مدينة دلّى وهى تخت الملك، فخرج لقتاله صاحبها «2» ملّو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة، وقد جعل على كلّ فيل برجا فيه عدّة من المقاتلة، وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات «3» ، وعلّق عليها من الأجراس والقلاقل «4» ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاى، وشدّوا فى خراطيمها عدّة من السيوف المرهفة، وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفّر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها، فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافا من الشوكات الحديد مثلّثة الأطراف، ونثرها فى مجالات الفيلة، وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوّة بالفتائل المغموسة بالدّهن، وقدّمها أمام عسكره، فلمّا تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب، أضرم تيمور فى تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة.
فركضت تلك الأباعر من شدّة حرارة النار، ثم نخسها سوّاقوها من خلف. هذا وقد كمن تيمور كمينا من عسكره.

(12/262)


ثم زحف بعساكره قليلا [قليلا «1» ] وقت السحر. فعندما تناوش القوم للقتال لوى تيمور رأس فرسه راجعا يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ويكفّ عن طريق الفيلة كأنّ خيوله قد جفلت منها، وقصد المواضع التى نثر فيها تلك الشوكات الحديد التى صنعها، فمشت حيلته على الهنود، ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشدّ السّوق حتى داست على تلك الشوكات الحديد، فلما وطئتها نكصت على أعقابها.
ثم التف «2» تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال، وقد عظم لهيبها على ظهورها، وتطاير شررها فى تلك الآفاق، وشنع زعاقها من شدّة النخس فى أدبارها.
فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرّت راجعة على العسكر الهندى، فأحست بخشونة الشوكات التى طرحها تيمور فى طريقها، فبركت وصارت فى الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة، وسالت أنهار من دمائها؛ فخرج عند ذلك الكمين [من عسكر «3» تيمور] من جنبى عسكر الهنود، ثم حطم تيمور بمن معه فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام.
ثم إنهم تضايقوا وتقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف والأطبار «4» ، وصبر كلّ من الفريقين زمانا طويلا، إلى أن كانت الكسرة على الهنود بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم، وانهزم باقيهم بعد أن ملّوا من القتال، فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل [على «5» ] مدينة دلّى وحصرها [مدّة «6» حتى] أخذها [من جوانبها «7» ] بعد مدّة عنوة، واستولى على

(12/263)


تخت ملكها واستصفى ذخائرها «1» ، وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسّبى والقتل والنّهب والتخريب.
وبينما هم فى ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وموت القاضى برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم، فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما، وكان أن يطير بموتهما فرحا، فنجز أمره وولّى «2» مسرعا بعد أن استناب بالهند من يثق به من أمرائه، وسار حتى وصل سمرقند، ثم خرج منها عجلا فى أوائل سنة اثنتين وثمانمائة، فنزل خراسان «3» .
ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها ابنه ميران «4» شاه، ثم سار حتى نزل قرا «5» باغ [فى سابع «6» عشر] شهر ربيع الأوّل، فقتل وسبى، ثم رحل منها ونزل تفليس «7» [فى يوم الخميس «8» ثانى] جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج، وأسرف فيها أيضا فى القتل والسبى، ثم قصد بغداد ففرّ منه [صاحبها «9» ] السلطان أحمد بن أويس [فى ثامن «10» عشر شهر رجب] إلى قرا يوسف «11» فعاد تيمور من بغداد وصيّف ببلاد التركمان ثم سار إلى [ماردين فعصى صاحبها عليه الملك الظاهر مجد الدين عيسى، فتركه تيمور ومضى إلى «12» ]

(12/264)


سواس وقد أخذها «1» الأمير سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فحصرها تيمور ثمانية عشر يوما حتى أخذها فى خامس المحرّم من سنة ثلاث وثمانمائة، وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، فحفر لهم سردابا «2» وألقاهم فيه وطمّهم بالتراب بعد ما كان حلف لهم ألّا يريق لهم دما وقال: أنا على يمينى ما أرقت لهم دما، ثم وضع السيف فى أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها.
ثم سار إلى بهسنا «3» فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يوما حتى أخذها، ومضى إلى ملطية فدكّها دكّا، وسار حتى نزل قلعة «4» الروم فلم يقدر عليها «5» ، فتركها وقصد عين «6» تاب، ففرّ منه نائبها الأمير أركماس الظاهرى، وهو غير أركماس الدّوادار فى الدولة الأشرفية.
ثم قصد حلب ووقع له بها وبدمشق ما تقدّم ذكره إلى أن خرج من البلاد الشاميّة.
وكان رحيله عن دمشق فى يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة، واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيا، ثم سار منها حتى نزل على ماردين «7» يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها.

(12/265)


وأوهم أنه يريد سمرقند يورّى بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرا يقال له فرج، وتوجّه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفا لأخذ بغداد.
ثم تبعه بمن بقى معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوة فى يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف فى أهل بغداد.
حدّثنى الأمير أسنباى الزّردكاش الظاهرى برقوق- وكان أسر عند «1» تيمور وحظى عنده، وجعله زرد كاشه «2» عند أخذ بغداد وحصارها- بأشياء مهولة، منها أنه لمّا استولى على بغداد ألزم جميع من معه أن يأتيه كلّ واحد منهم برأسين من رءوس أهل بغداد، فوقع القتل فى أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارا، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرءوس مائة وعشرين مئذنة، فكانت عدّة من قتل فى هذا اليوم من أهل بغداد تقريبا مائة ألف «3» إنسان. وقال المقريزى: تسعين ألف إنسان، وهذا سوى من قتل فى أيّام الحصار، وسوى من قتل فى يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه فى الدّجلة «4» فغرق، وهو أكثر من ذلك.
قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها، قال: وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مرّ به ويقطع رأسه.

(12/266)


ثم رحل تيمور من «1» بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكّا خرابا، ثم كتب إلى أبى يزيد «2» بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلّا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردّ أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التّتر.
فلمّا تكامل جيشه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبى يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا، ويكون لكم الروم عوضهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه.
وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردّه عن عبور أرض الروم «3» ، فسلك تيمور غير الطريق، ومشى فى أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد ابن عثمان، ونزل بأرض مخصبة «4» وسيعة، فلم يشعر ابن عثمان إلّا وقد نهبت بلاده. فقامت قيامته وكرّ راجعا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغا أوهن قواهم، وكلّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلمّا تدانوا للحرب كان أوّل بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه، فضعف بذلك عسكره، لأنّهم كانوا معظم عسكره، ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائدا إلى مدينة برصا «5» بباقى عسكره، فلم يبق مع أبى يزيد إلا

(12/267)


نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور، وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، واستمرّ القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فكلّت عساكر ابن عثمان، وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلّتهم وكثرة النّمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صرع منهم أكثر أبطالهم، وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيرا قبضا باليد على نحو ميل من مدينة أنقرة «1» ، فى يوم الأربعاء سابع عشرين ذى الحجّة سنة أربع وثمانمائة بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش، فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطىّ وهو تموز بالرومىّ، وصار تيمور يوقف بين يديه فى كل يوم ابن عثمان ويسخر منه وينكيه بالكلام، وجلس تيمور مرّة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلبا مزعجا، فحضر وهو يرسف «2» فى قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه «3» ، ثم [وقف تيمور «4» ] وسقاه من يد جواريه اللّائى «5» أسرهنّ تيمور، ثم أعاده إلى محبسه.
ثم قدم على تيمور إسفنديار «6» أحد ملوك الروم بتقادم جليلة، فقبلها وأكرمه وردّه إلى مملكته [بقسطمونية «7» ] ، هذا وعساكر تيمور تفعل فى بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدّم ذكرها.

(12/268)


وأما أمر سليمان بن أبى يزيد بن عثمان، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة برصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة «1» وتلاحق به الناس، وصالح أهل إستانبول «2» ، فبعث تيمور فرقة كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى برصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضا بعساكره.
ثم أفرج تيمور عن محمد وعن أولاد ابن قرمان من حبس أبى يزيد بن عثمان، وخلع عليهما وولّاهما بلادهما، وألزم كلّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضرب السّكّة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش «3» .
ثم شتا فى معاملة «4» منتشا وعمل الحيلة فى قتل التتار الّذين أتوه من عسكر ابن عثمان حتى أفناهم عن آخرهم.
وأما أبو يزيد بن عثمان، فإنه استمر فى أسر تيمور من ذى الحجّة سنة أربع، إلى أن مات بكربته وقيوده، فى أيام من ذى القعدة سنة خمس وثمانمائة، بعد أن حكم ممالك الروم نحو تسع سنين.
وكان من أجلّ الملوك حزما وعزما وشجاعة، رحمه الله تعالى. وهو المعروف بيلدرم بايزيد.
ثم توجّه «5» تيمور من بلاد الروم وقد تعلّقت آماله بأخذ بلاد الصين، فأخذه الله قبل أن يصل، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمره وما وقع له بطريق الصين إلى

(12/269)


أن توفّى [لعنه الله «1» ] ولكن أضربنا عن ذلك خشية الإطالة، وأيضا قد ذكرناه فى ترجمته «2» فى (المنهل الصافى) مستوفاة، فلتنظر هناك «3» .
وكانت وفاة تيمور فى يوم «4» الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة وهو نازل بالقرب من أترار «5» ، وأترار بالقرب من آهنگران، ومعنى آهنگران باللغة العربية الحدّادون «6» .
ولما مات لبسوا عليه المسوخ، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فتسلطن موضع جدّه تيمور فى حياة والده ميران شاه المذكور، فاستولى خليل المذكور على خزائن جدّه وبذل الأموال، وتم أمره. انتهى ما أوردناه من قصة تيمور لنك على سبيل الاختصار.
ولنعد إلى ما نحن بصدده من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق [رحمه الله «7» ] .
ولما كان يوم الأحد أوّل شوّال أفرج السلطان عن الأمير يلبغا السالمى وهو متضعّف بعد ما عصر وأهين إهانة بالغة.

(12/270)


وفى هذه الأيّام كثر احتراز الأمراء بعضهم من بعض، وتحدّث الناس بإثارة فتنة «1» .
ثم فى سابع شوّال المذكور استقرّ الأمير طولو من على باشاه الظاهرى فى نيابة إسكندرية عوضا عن الأمير أرسطاى، واستقر الأمير بشباى «2» من باكى الظاهرى حاجبا ثانيا على خبز «3» سودون الطيّار، إمرة طبلخاناه، واستقر كلّ من سودون الطيار وألطنبغا من سيدى حجّابا بحلب لأمر اقتضى ذلك.
ثم استدعى السلطان الأمراء بقلعة الجبل، وقال لهم: قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية «4» بأمريّات ببلاد الشام من أوّل شهر رمضان، فلم لا يسافروا؟ وكلّ ذلك بتعليم يشبك الدوادار، فقال الأمير نوروز الحافظى ما فى هذا مصلحة، إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى عنده من مماليك أبيه الأعيان؟ ووافق نوروز سودون الماردانى. فقال السلطان: من ردّ مرسومى فهو عدوّى، فسكت الأمراء وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها.
فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من ردّ منشوره، فغضب السلطان وأصبح الجماعة يوم الأحد، وقد اتفقوا مع الأمراء وساروا للأمير نوروز الحافظى

(12/271)


وتحدّثوا معه فى عدم سفرهم، فاعتذر إليهم، وبعثهم لسودون الماردانى رأس نوبة النوب «1» فحدّثوه فى ذلك، وما زالوا به حتى ركب للأمير يشبك الشعبانى الدوادار وحدّثه فى ألّا يسافروا، فأغلظ يشبك فى ردّ الجواب عليه، وهدّدهم بالتوسيط «2» إن امتنعوا من «3» السفر.
ثم أمره أن يطلع إلى السلطان ويسأله فى [ذلك فطلع «4» سودون الماردانىّ إلى السلطان] ، وسأله فى إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد اتفق منهم نحو الألف تحت القلعة، وهم مجتمعون، فبعث السلطان إليهم بعض الخاصكيّة يقول لهم: نحن ما خلّيناكم بلا رزق بل عملناكم أمراء، فما هو إلّا أن نزل إليهم وكلّمهم فى ذلك «5» ، ثاروا عليه وسبّوه ثم ضربوه حتى كاد يهلك، فبينما هم فى ضربه، وإذا بالأمير قطلوبغا الحسنى الكركى والأمير آقباى الكركى الخازندار نزلا من القلعة، فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدّبابيس إلى أن سقط قطلوبغا الكركى، وتكاثر عليه مماليكه وحملوه إلى بيته، ونجا آقباى الكركى الخازندار والتجأ إلى بيت الأمير يشبك الدوادار، وماجت البلد وغلّقت الأسواق، فنودى بعد العصر من اليوم المذكور بطلوع الأمراء والمماليك السلطانيّة فى الغد إلى القلعة، ومن لم يطلع حلّ ماله ودمه للسلطان.
ثم طلع الأمير يشبك، ونوروز الحافظى، وآقباى الكركى الخازندار، وقطلوبغا الكركى إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بالقلعة إلّا نوروزا فإنّه أقام معهم ساعة عند السلطان.

(12/272)


ثم نزل إلى داره وطلع أيضا فى الليل غالب المماليك السلطانية.
وأصبحوا يوم الاثنين تاسع شوال، فطلع جميع الأمراء والمماليك إلا الأمير جكم من عوض، وسودون الطيّار، وقانّى باى العلائى، وقرقماس الأينالى، وجمق وتمربغا المشطوب، فى عدّة من المماليك السلطانية الأعيان، منهم يشبك العثمانى، وقمج وبرسبغا وطرباى وبقية خمسمائة مملوك، والجميع لبسوا السلاح وآلة الحرب ووقفوا تحت القلعة حتى تضحّى النهار. ثم مضوا إلى بركة الحبش «1» ونزلوا عليها.
وأما أهل القلعة، فإن يشبك بعث فى الحال نقيب «2» الجيش إلى الشيخ لاچين الجركسى أحد الأجناد، فقبض عليه وحمله إلى بيت آقباى حاجب الحجّاب، فوكّل به آقباى من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس ليسافر إلى الشام.
ثم قبض على سودون الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاچين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها.
واستمرّ الأمير جكم ورفقته ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعى الأمير يشبك سائر الأمراء، فلما صاروا بالقلعة وكّل بهم من يحفظهم، فاستمرّوا على ذلك حتى مضى جانب من الليل.

(12/273)


ثم نزل الطلب إلى الأمير سودون طاز الأمير آخور «1» الكبير من السلطان ليطلع إلى عند الأمراء، وفى عزمهم أنه إذا طلع قبضوا عليه، فمّ لسودون طاز بعض الخاصكية يسمّى قانى باى، وقال له: فز بنفسك؛ فلم يكذّب سودون طاز الخبر، وأخذ الخيول السلطانية التى بالإسطبل السلطانى، وركب بمماليكه، وسار حتى لحق بالأمير جكم ببركة الحبش، وبلغ السلطان ذلك، فارتجّ القصر السلطانىّ، وقام كلّ أمير ونزل إلى داره ولبس آلة الحرب بمماليكه، ودقّت الكوسات وطلعوا إلى القلعة.
فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل، وبعث إلى الأمير جكم من عوض بأن يتوجّه إلى صفد نائبا بها، فزدّ جكم الجواب «2» «نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، ولو أراد قتلنا ما خالفناه، غير أننا لنا غرماء يدعنا نحن وإيّاهم، ثم بعد ذلك مهما أراد السلطان يفعل فينا، فنحن بين يديه» . فلمّا عاد الرسول بذلك بكى الأمير يشبك الدوادار، وتكلم هو والأمير آقباى الكركى الخازندار وقطلوبغا الكركى مع السلطان، ودار بينهم كلام «3» كثير، حتى بعث السلطان بالأمير نوروز الحافظى والقاضى الشافعى «4» وناصر الدين المعلّم الرمّاح أمير آخور إلى الأمير جكم فى طلب الصلح، فنزلوا إليه وكلّموه فى ذلك، فامتنع جكم من الصلح هو ومن معه وقالوا: لابدّ لنا من غرمائنا، وأخذوا عندهم الأمير نوروز الحافظى، وعاد القاضى «5» الشافعى وناصر الدين الرمّاح بالجواب، فعند ذلك قال السلطان ليشبك: دونك وغرماءك؛ فطلب يشبك المساعدة من السلطان عليهم، فلم يفعل، فنزل يشبك إلى داره وقد اختلّ أمره.

(12/274)


ثم عاد إلى القلعة ليطلع إلى السلطان فلم يمكّن منها، وتخلّى عنه المماليك السلطانية؛ فلم تكن غير «1» ساعة حتى أقبل جكم وسودون طاز ونوروز فى عددهم وأصحابهم.
وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وسودون طاز عن يمينه، وساروا نحو يشبك، فنادى يشبك: «من قاتل معى من المماليك السلطانية فله عشرة آلاف درهم» فأتاه طائفة، وخرج من بيته وصفّ عساكره، فحمل عليه نوروز بمن معه، وصدمه صدمة واحدة كسره فيها؛ فانهزم إلى داره وقاتل بها ساعة، ثم هرب منها، فنهبت داره ودار قطلوبغا الكركىّ.
وكان بيت يشبك دار منجك اليوسفى الملاصقة لمدرسة «2» [السلطان «3» ] حسن وهى الآن على ملك تمربغا الظاهرى الدوادار، ودار قطلوبغا [الكركى «4» ] البيت الذي تجاهه، وقبض على آقباى الكركى الخازندار، فشفع فيه السلطان، فترك فى داره إلى يوم الخميس ثانى عشره، فركب الأمير جكم إليه، وأخذه وطلع به إلى الإسطبل السلطانىّ وقيّده.
ثم قبض على الأمير قطلوبغا الكركى الحسنى من بيت الأمير يلبغا «5» الناصرى وقيّده.

(12/275)


ثم قبض على جركس القاسمى المصارع من عند سودون الجلب، وقيّده وبعث الثلاثة إلى الإسكندرية، والثلاثة أمراء ألوف من أصحاب يشبك، وسافروا إلى الإسكندرية فى ليلة السبت رابع عشر شوّال المذكور من سنة ثلاث وثمانمائة، وكتب جكم بإحضار سودون الفقيه من الإسكندرية.
وسودون الفقيه هذا هو حمو الملك الظاهر ططر، وجدّ الملك الصالح محمد ابن ططر الآتى ذكرهما. وطلب جكم الأمير يشبك الشعبانى الدوادار فلم يقدر عليه إلى ليلة الاثنين سادس عشره دلّ عليه أنه فى تربة «1» بالقرافة، فنزل إليه جكم فلمّا أحيط بيشبك [وهو «2» ] فى التربة المذكورة ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشجّ جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز الحافظى، فقيّد وسيّر من ليلته إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفى يوم الاثنين خلع على سعد الدين إبراهيم بن غراب باستمراره [فى وظائفه «3» ] وهو أحد أصحاب يشبك بعد أن اجتهد غاية الاجتهاد فى رضا جكم عليه فلم يقدر.

(12/276)


ثم فى ثامن عشره أخلع السلطان على الأمير شيخ المحمودى نائب طرابلس باستمراره على نيابته، وهى خلعة السفر «1» ، وكان له من يوم قدم من أسر تيمور بالقاهرة فى عمل مصالحه، وكذلك الأمير دقماق نائب صفد خلع عليه خلعة السفر.
وكان دقماق أولا نائب حماة، ثم صار الآن فى نيابة صفد، وأذن لهما بالسفر إلى محلّ كفالتهما «2» .
وفى تاسع عشره خلع السلطان الملك الناصر على الأمير جكم باستقراره دوادارا كبيرا عوضا عن يشبك الشعبانى، بحكم حبسه بالإسكندرية، وعلى سودون من زاده باستقراره خازندارا، عوضا عن آقباى الكركى، وعلى أرغون «3» من يشبغا باستقراره شادّ الشراب «4» خاناه، عوضا عن قطلوبغا الكركى، وأخلع على بيسق الشيخى خلعة إمرة الحاج على العادة، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحجّ بمكّة لعمارة «5» ما بقى من المسجد الحرام.
ثم فى سادس عشرين شوّال أخلع السلطان على الأمير يونس الحافظى باستقراره فى نيابة حماة بعد عزل الأمير عمر بن الهيدبانى «6» ، وفى هذا اليوم أنعم على

(12/277)


الأمير جكم من عوض الدوادار بإقطاع يشبك الشعبانى الدوادار، وعلى سودون الطيّار بإقطاع الأمير جكم، وأنعم بإقطاع آقباى الكركىّ على قانى باى العلائى، وبإقطاع قطلوبغا الكركى على تمربغا من باشاه المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس القاسمى المصارع على سودون من زاده بستّين فارسا.
ثم فى أوّل ذى القعدة ألزم سعد الدين «1» بن غراب بتجهيز نفقة المماليك السلطانية، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، ويلبغا السالمى بمائة ألف دينار، فشرع الجميع فى تجهيزها.
ثم قبض على السالمى وصودر، وعذّب بأنواع العذاب، ثم أفرج عنه بعد مدّة، واستمرّ الحال على أن جكم صار متحدّثا فى المملكة.
ثم فى رابع ذى الحجة اختفى سعد الدين بن غراب «2» ، وأخوه فخر الدين ماجد، ولم يعرف خبرهما. فاستقرّ ناصر الدين محمد بن سنقر فى الأستداريّة، عوضا عن سعد الدين بن غراب، مضافا لما معه من الذخيرة والأملاك.
ثم استعفى سودون من زاده من وظيفة الخازندارية «3» ، وأخلع على الوزير علم الدين أبى كمّ باستقراره فى نظر «4» الخاصّ مضافا على الوزر عوضا عن

(12/278)


؟؟؟ الدين بن غراب، وأخلع على سعد الدين بن أبى الفرج بن بنت الملكى، صاحب ديوان «1» الجيش، واستقرّ فى نظر الجيش «2» عوضا عن ابن غراب.
ثم فى تاسع ذى الحجة ورد كتاب مشايخ تروجة «3» يتضمن قدوم سعد بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطانىّ باستخراج الأموال، ومسيرهم معه إلى الإسكندريّة لإخراج يشبك والأمراء من سجن الإسكندرية، وإحضارهم إلى القاهرة. فأخلع «4» السلطان على رسولهم، وكتب على يده مثالا سلطانيّا بالقبض على ابن غراب ومن معه، وإرسالهم إلى القاهرة. ثم قدم كتاب نائب الإسكندرية بأن سعد الدين ابن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بعلام «5» الخدّام بالزّعر إلى تروجة، فأعطى لكل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرّر معهم قتل النائب، فبلغ ذلك النائب، فلما قدموا إلى الإسكندرية قبض على جماعة منهم وقتل بعضهم وقطع أيدى بعضهم، وضرب علّام الخدّام بالمقارع، وأنه أيضا ظفر بكتاب ابن غراب لبعض تجار الإسكندرية، وفيه أن يجتمع بالنائب ويؤكّد

(12/279)


عليه ألّا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر فى أمر يشبك الدوادار ومن معه من الأمراء، وأن يجعل باله لا يجرى عليه مثل ما جرى على ابن عرّام فى قتله الأمير بركة.
ثم وردت كتب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أمانا، وكتب «1» الأمراء ما خلا الأمير جكم، فإنه كتب إليه كتابا ولم يكتب إليه أمانا، فقدم إلى القاهرة فى حادى عشرينه فى الليل، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار الأمير سودون طاز أمير آخور، فتحدّث له مع سودون طاز وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومى الثلاثاء والأربعاء، حتى استرضى له الأمراء، وأحضره فى يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، وخلع عليه باستقراره فى وظائفه القديمة:
الأستادارية، ونظر الجيش، والخاص.
ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه جكم من الدخول إليه وردّه وما زال يسعى ابن غراب حتى دخل إليه مع الأمير سودون من زادة، وقبّل يده فلم يكلّمه كلمة، وأعرض عنه، فلم يزل حتى أرضاه بعد ذلك، ثم فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة أنفق ابن غراب تتمّة النفقة على المماليك السلطانية.
فأعطى كل واحد ألف درهم، وعند ما نزل من القلعة أدركه عدّة من المماليك السلطانية ورجموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به حتى أجاره.

(12/280)


[ما وقع من الحوادث سنة 804]
ثم فى محرم سنة أربع وثمانمائة، كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الوالد «1» ، فكتب للوالد بذلك بعض أعيان أمراء مصر، فسبق ذلك المثال السلطانى، فركب الوالد من دار السعادة «2» بدمشق فى نفر من مماليكه فى ليلة الجمعة ثانى عشرين المحرم وخرج إلى حلب، فتعين لنيابة «3» دمشق عوضا عن الوالد، الأمير آقبغا الجمالى الأطروش أتابك دمشق وكتب بانتقال دقماق نائب صفد إلى نيابة حلب، عوضا عن دمرداش المحمّدى بحكم عصيانه وانضمامه على الوالد لمّا قدم عليه من دمشق، واستقر الأمير تمربغا المنجكى فى نيابة صفد عوضا عن دقماق.
وأما الوالد رحمه الله فإنه لمّا سار إلى حلب وجد الأمير دمرداش نائب حلب قد قبض على الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان «4» ، فأمره الوالد

(12/281)


بإطلاقه، فاطلقه، واتفق الجميع على الخروج عن طاعة السلطان بسبب من حوله من الأمراء، واجتمع عليهم خلائق من التركمان وغيرهم على ما سيأتى ذكره.
ثم وقع بين أمراء مصر، وهو أن سودون الحمزاوى وقع بينه وبين أكابر الأمراء، مثل نوروز، وجكم، وسودون طاز، وتمربغا المشطوب، وقانى باى العلائى، فانقطعوا الجميع عن الخدمة السلطانية من أول صفر، وعزموا على إثارة فتنة، فلبس سودون الحمزاوى آلة الحرب فى داره، واجتمع عليه من يلوذ به.
وكان الأمراء المذكورون، قد عيّنوا قبل ذلك للخروج من ديار مصر ثمانية انفس، وهم سودون الحمزاوى المذكور، وسودون بقجة وهما «1» من أمراء الطبلخانات ورءوس نوب، وأزبك الدوادار، وسودون بشتو وهما من أمراء العشرات، وقانى باى الخازندار، وبردبك وهما من الخاصكية، وآخرين «2» ، ولما لبس الحمزاوى مشت الرسل بينهم فى الصلح إلى «3» أن وقع الاتفاق على خروج سودون الحمزاوى إلى نيابة صفد، وإقامة الباقين بمصر من غير حضورهم إلى الخدمة السلطانية.
ثم فى سابع عشرين صفر المذكور، أخلع على سودون الحمزاوى بنيابة صفد وبطل ولاية تمربغا المنجكى من صفد.
وفى هذا الشهر، حضر الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد كان «4» ، والأمير عمر ابن الطحّان نائب غزّة كان، من أسر تيمور لنك، وذكرا أنّهما فارقاه من أطراف بغداد.

(12/282)


ثم فى يوم الاثنين نصف شهر ربيع الأوّل من سنة أربع وثمانمائة، طلع الأمير نوروز الخدمة السلطانية، بعد ما انقطع عنها زيادة على شهر، فخلع عليه خلعة الرضا.
ثم فى ثامن عشره، طلع الأمير جكم من عوض الدوادار الخدمة بعد ما انقطع عنها مدّة شهرين وخلع عليه أيضا، هذا ودقماق نائب حلب، وأقبغا الأطروش نائب الشأم فى الاستعداد وجمع التركمان والعشير لقتال الوالد ودمرداش.
ثم خرج الوالد ودمرداش من حلب إلى ظاهرها لانتظار دقماق وقتاله.
ثم إن السلطان فى شهر ربيع الآخر أخلع على جمق رأس نوبة باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن چركس المصارع، وكانت شاعرة من يوم مسك چركس المذكور، واستقرّ مبارك شاه الحاجب وزيرا عوضا عن علم الدين يحيى المعروف بأبى كمّ، وقبض على أبى كم وسلّم لشادّ الدواوين «1» للمصادرة.
وفى العشر الأخير من هذا الشهر استقر جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى قاضى قضاة الديار المصرية بعد عزل القاضى ناصر الدين الصالحى، وهذه أول ولاية جلال الدين البلقينى.
ثم فى ثامن جمادى الأولى استقر الأمير ألطنبغا العثمانى نائب صفد كان، فى نيابة غزّة عوضا عن الأمير صرق بعد عزله.
ثم ابتدأت الفتنة بين الأمراء، وطال الأمر وانقطع جكم ونوروز عن الخدمة السلطانية أياما كثيرة.

(12/283)


ودخل شهر رمضان وانقضى، ولم يحضروا الهناء بالعيد، ولا صلّوا صلاة العيد مع السلطان.
واستهلّ شوّال فقويت فيه القالة بين الأمراء، وأرجف بوقوع الحرب غير مرّة.
فلما كان يوم الجمعة ثانى شوّال ركب الأمراء للحرب بالسلاح، ونزل الملك الناصر إلى الإسطبل السلطانىّ عند سودون طاز الأمير أخور، وركب الأمير نوروز وجكم وخصمهما سودون طاز، ووقع الحرب بينهم من بكرة النهار إلى العصر.
فلما كان آخر النّهار بعث السلطان بالخليفة المتوكّل على الله والقضاة الأربعة إلى الأمير نوروز فى طلب الصّلح، فلم يجد نوروز بدّا من الصلح وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكف الأمير جكم أيضا عن الحرب «1» ، وكان ذلك مكيدة من سودون طاز، فإنه خاف أن يغلب ويسلمه السلطان إلى أخصامه، فتمّت مكيدته بعد ما كاد أن يؤخذ، لقوّة نوروز وجكم بمن معهما من الأمراء والخاصكيّة، وسكنت الفتنة، وبات الناس فى أمن وسكون.
فلما كان يوم السبت ركب الخليفة والقضاة، وحلّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، فطلع الأمير نوروز إلى الحدمة فى يوم الاثنين خامس شوّال، وخلع عليه السلطان، وأركبه فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم طلع الأمير جكم فى ثامنه وهو خائف ولم يطلع قانى باى ولا قرقماس، وطلبا فلم يوجدا فجهز إليهما خلعتان، على أن يكون قانى باى نائبا بحماه، وقرقماس حاجبا بدمشق، ونزل جكم بغير خلعة فكاد أن يهلك لكونه لم يخلع عليه.

(12/284)


وعند ما جلس بداره نزل إليه جرباش الشيخى رأس نوبة، وبشباى الحاجب الثانى يطلبان قانى باى منه ظنا أنه اختفى عنده، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما بجواب ملفّق.
ثم ركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكى الخازندار، ويشبك الساقى، وهو الذي صار أتابكا فى دولة الأشرف برسباى، ويشبك العثمانى، وألطنبغا جاموس، وجانيباى الطيبى، وبرسبغا الدوادار، وطرباى الدوادار، وساروا الجميع إلى بركة الحبش خارج القاهرة، ولحق بهم فى الحال قانى باى، وقرقماس الرماح، وأرغز، وقبجق، ونحو الخمسمائة مملوك من المماليك السلطانية، وغيرهم وأقاموا جميعا ببركة الحبش إلى ليلة السبت عاشر شوال فأتاهم الأمير نوروز، وسودون من زاده رأس نوبة، وتمربغا المشطوب، فى نحو الألفين من المماليك السلطانية وغيرهم، وأقاموا جميعا ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء رابع عشر شوال، وأمرهم فى زيادة وقوّة، بمن يأتيهم أوّلا بأوّل من الأمراء والمماليك السلطانية.
وفى الليلة المذكورة، دبّر سودون طاز أمره وطلع إلى السلطان، وأنزله إلى الإسطبل السلطانىّ وبات به.
فلمّا أصبح بكرة يوم الأربعاء المذكور، ركب السلطان فيمن معه من الأمراء والخاصكية ونزل من القلعة، وسار نحو بركة الحبش من باب «1» القرافة، بعد ما نادى فى أمسه بالعرض، واجتمع إليه جميع عساكره، وقد صف سودون طاز عساكر

(12/285)


السلطان، فلما قارب بركة الحبش، ركب نوروز وجكم بمن معهما أيضا، من الأمراء والمماليك السلطانية، فصدمهم سودون طاز بالعسكر السلطانىّ صدمه كسرهم فيها، وأسر الأمير تمربغا المشطوب، وسودون من زاده، وعلى بن إينال وأرغز، وهرب نوروز وجكم فى عدّة كثيرة من الأمراء والمماليك إلى «1» بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمراء وسودون طاز مظفّرا منصورا، وقيّد سودون طاز الأمراء الممسوكين «2» ، وبعثهم إلى الإسكندرية فى ليلة السبت سابع عشره، وسار نوروز وجكم إلى أن وصلا إلى منية القائد «3» ، ثم عادوا إلى طموه «4» ونزلوا على ناحية منبابة «5» ، من برّ الجيزة تجاه بولاق، وطلب الأمير يشبك الشعبانى الدوادار من سجن الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين تاسع عشره إلى قلعة الجبل، ومعه خلائق ممن خرج إلى لقائه، فقبّل الأرض ونزل إلى داره، كل ذلك والأمراء بالجيزة.
فلما كان ليلة الثلاثاء عشرين شوّال ركب الأمير نوروز نصف الليل وعدّى النيل، وحصر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس، وكان قد تحدّث هو وإينال باى من قجماس مع السلطان فى أمر نوروز حتى أمّنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك

(12/286)


أيضا من مكر سودون طاز، فمشى ذلك على نوروز وحضر، فاختلّ عند ذلك أمر جكم، وتفرّق منه من كان معه، وصار فريدا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يسأله «1» فى الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباى الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء حادى عشرين شوّال إلى باب السلسلة «2» من الإسطبل السلطانى؛ فتسلمه عدوّه الأمير سودون طاز، وأصبح وقد حضر الأمير يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس ثانى عشرينه، قيّد وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها فى البرج الذي كان سجن يشبك الدوادار فيه، وسكن يشبك مكانه وعلى إقطاعه بعد ما حبس بالإسكندرية نحوا من سنة، واستقرّ دوادارا على عادته عوضا عن جكم المذكور؛ على ما سيأتى ذكره.
وأما أمر البلاد الشأميّة فإن دقماق جمع جموعه من العساكر والتركمان لقتال الوالد ودمرداش نائب حلب، وسار إلى جهة الوالد «3» ، فخرج إليه الوالد وعلى مقدّمته دمرداش، وصدموه صدمة واحدة انكسر فيها بجموعه وولّوا الأدبار، ونهب ما معهم. وعاد دقماق منهزما إلى دمشق، واستنجد بنائبها الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، وكتب أيضا دقماق لجميع نوّاب البلاد الشامية بالحضور والقيام بنصرة السلطان، وجمع من التركمان والعربان جمعا كبيرا، وخرج معه غالب العساكر

(12/287)


الشأمية، وعاد إلى جهة حلب بعساكر عظيمة، والوالد ودمرداش فى مماليكهم لا غير؛ مع جدب البلاد الحلبية، وخراب قراها، فإنه عقيب توجه تيمور بسنة واحدة وأشهر.
فلما قارب دقماق بعساكره حلب أشار دمرداش على الوالد بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال الوالد لا بدّ من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحق، فتوجّها «1» لدقماق بمماليكهما، وقد صف دقماق عساكره واقتتلا قتالا شديدا، وثبت كل من الفريقين وقد أشرف دقماق على الهزيمة.
وبينما هو فى ذلك خرج من عسكر الوالد ودمرداش جماعة إلى دقماق، فانكسرت عند ذلك الميمنة.
ثم انهزم الجميع إلى نحو بلاد التركمان، فلم يتبعهم أحد من عساكر دقماق، وملك دقماق حلب، واستمرّ الوالد ودمرداش ببلاد التركمان؛ على ما سيأتى ذكره.
وأما ما وقع بمصر فإنه لما حبس جكم من عوض بالإسكندرية، أخلع على نوروز الحافظى فى بيت بيبرس فى يوم الأربعاء بنيابة دمشق، وتوجه إلى داره.
فلما كان من الغد فى يوم الخميس قبض عليه وحمل إلى باب السلسلة فقيد به وحمل من ليلته، وهى ليلة الجمعة ثالث عشرين شوال إلى الإسكندرية، فسجن بها، وغضب لذلك الأميران بيبرس الأتابك، وإينال باى من «2» قجماس، وتركا طلوع الخدمة السلطانية أياما.
ثم أرضيا وطلعا إلى الخدمة، وراحت على نوروز، واختفى الأمير قانى باى العلائى وقرقماس الرمّاح، فلم يعرف خبرهما.

(12/288)


فلما كان يوم الاثنين ثالث ذى القعدة، أنعم السلطان بإقطاع الأمير نوروز على الأمير إينال العلائى المعروف بحطب رأس نوبة بعد أن أخرجوا منه النحريرية.
وأنعم السلطان بإقطاع قانى باى العلائى على الأمير علّان جلّق، وبإقطاع تمربغا المشطوب على الأمير بشباى الحاجب الثانى، فلم يرض به، فاستقر باسم قطلوبغا الكركى، وكان إقطاعه قبل حبسه بالإسكندرية، وهو إلى الآن لم يحضر من سجن الإسكندرية. وبقى بشباى على طبلخانته.
وأنعم بإقطاع جكم من عوض على الأمير يشبك الشعبانى الدوادار، وهو إقطاعه أيضا قبل حبسه بالإسكندرية.
وأنعم على الأمير بيغوت بإمرة طبلخاناة، وعلى أسنبغا المصارع بإمرة طبلخاناة وعلى سودون بشتا «1» بإمرة طبلخاناة.
ثم فى سادس ذى القعدة، قدم الأمراء من سجن الإسكندرية من أصحاب يشبك، وهم الأمير آقباى طاز الكركى الخازندار، وقطلوبغا الحسنى الكركى و چركس القاسمى المصارع، وصعدوا إلى القلعة، وقبّلوا الأرض بين يدى السلطان ثم نزلوا إلى بيوتهم، ثم رسم السلطان بانتقال الأمير شيخ المحمودى الساقى من نيابة طرابلس إلى نيابة دمشق، بعد عزل الأمير آقبغا الجمالى الأطروش، وتوجّهه إلى القدس بطّالا.
ولما كان يوم الثلاثاء ثامن عشر ذى القعدة لعب الأمراء الكرة فى بيت الأتابك بيبرس، فاجتمع على باب بيبرس من المماليك السلطانية نحو الألف مملوك يريدون الفتك بسودون طاز.

(12/289)


وعند ما خرج سودون طاز من بيت بيبرس هموا به، فتحاوطته أصحابه ومماليكه، وساق سودون حتى لحق بباب السلسلة، وامتنع بالإسطبل السلطانى حيث هو سكنه، ووقع كلام كثير. ثم خمدت الفتنة.
فلما كان رابع عشرينه، خلع السلطان على الأمير يشبك الشعبانى باستقراره دوادارا على عادته، عوضا عن الأمير جكم من عوض بحكم حبسه.
ثم فى يوم السبت رابع عشر ذى الحجة خلع السلطان على الأمير آقباى الكركى باستقراره خازندارا على عادته.
ثم فى سلخ ذى الحجة استقر الأمير جمق الدوادار الثانى فى نيابة الكرك، واستقر الأمير علّان جلّق أحد مقدّمى الألوف بديار مصر فى نيابة حماة، بعد عزل يونس الحافظى، فشقّ ذلك على سودون طاز.
ثم كتب للأمير دمرداش أمانا، وأنه يستقر فى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير شيخ المحمودى المنتقل إلى نيابة دمشق، وكتب للأمير على بك بن دلغادر بنيابة عين تاب، وللأمير عمر بن الطحان بنيابة ملطية.
وكانت الأخبار وردت بجمع التركمان ونزولهم مع دمرداش إلى حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع معه نائب حماة والأمير نعير، وأن تيمور لنك نازل على مدينة سيواس، ولم يحجّ أحد فى هذه السنة من الشام ولا من العراق.