****************************************************************************************
الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 114 / 273 - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة
****************************************************************************************
تيمور لنك والشام
وطال الكلام في ذلك حتى استقر الرأي على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمورلنك. وسار أسنبغا في خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء. هذا وأهل البلاد الشامية في أمر لا يعلمه إلا الله تعالى مما داخلهم من الرعب والخوف وقصد كل واحد أن يرحل من بلده فمنعه من ذلك حاكم بلده ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم.
ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدي وصحبته أيضًا كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا بعد ما ملك مدينتها وأنه مستمر على حصارها وقد وصلت عساكره إلى عينتاب ووصل هذا الخبر إلى مصر في يوم رابع عشرين صفر المذكور فوقع الشروع عند ذلك في حركة سفر السلطان ثم علق جاليش السفر في يوم ثالث شهر ربيع الأول.
وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق في سابع صفر فقرأ كتاب السلطان في الجامع الأموي وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور وقدم في تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء بأنه قدم في عام أول إلى العراق يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة ثم عاد إلى الهند فبلغه موت الملك الظاهر فعاد وأوقع بالكرج ثم قصد الروم لما بلغه قلة أدب هذا الصبي سليمان بن أبي يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه فتوجه إليه وفعل بسيواس وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة ويذكر اسمه في الخطبة ثم يرجع وطلب في الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه في دولة الملك الظاهر برقوق " وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين في ذمتكم " فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه وأمر بالرسول فوسط.
وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر في ثالث شهر ربيع الأول.
وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة ظاهر حلب وقد اجتمع بحلب سائر نواب البلاد الشامية واستحث في خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمورلنك في سبعمائة فارس والتتار في نحو ثلاثة آلاف فارس وترامى الجمعان بالنشاب ثم اقتتلوا ساعة وأخذ شيخ من التتار أربعة وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب وكان الذي اجتمع بها: الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها ونائب طرابلس شيخ المحمودي المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجالتها ونائب حماة دقماق المحمدي بعساكر حماة وعربانها ونائب صفد ألطنبغا العثماني بعساكر صفد وعشيرها ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة غير أن الكلمة متفرقة والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان انتهى.
وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب ويأمره بمسك سودون نائب الشام فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام وقال لدمرداش: " إن الأمير - يعني تيمور - لم يأت البلاد بمكاتباتك إليه وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها فحنق منه دمرداش لما سمع منه هذا الكلام وقام إليه وضربه ثم أمر به فضربت رقبته.
ويقال إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك وعدائه ومكره ليفرق بذلك بين العساكر فعلم الأمراء ذلك ولم يقع ما قصده - ومن الحلبيين جماعة يقولون إلى الآن إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال.
ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور وتهيأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره لعلمهم بعدم رأي مدبري مملكة مصر من الأمراء ولصغر سن السلطان وقد فات الأمر وهم في قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه وكان الأليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس كما فعل الملك الظاهر برقوق - رحمه الله - فيما تقدم ذكره.
وبينما النواب في إصلاح شأنهم للقتال نزل تيمور بعساكره على قرية حيلان خارج حلب في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأول وأحاط بمدينة حلب وأصبح من الغد في يوم الجمعة زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها فكانت بين أهل حلب وبينه في هذين اليومين حروب كثيرة ومناوشات بالنشاب والنفوط والمكاحل.
وركب أهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشد قتال فلما أشرقت الشمس يوم السبت حادي عشره خرج نواب الشام بجميع عساكرها وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور ووقف سيدي سودون نائب دمشق بمماليكه وعساكر دمشق في الميمنة ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه وعساكر حلب في الميسرة ووقف بقية النواب في القلب وقدموا أمامهم أهل حلب المشاة فكانت هذه التعبية من أيشم التعابي هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبية العساكر.
وحال وقوف الجميع في منازلهم زحف تيمور بجيوش قد سدت الفضاء وصدم عساكر حلب صدمة هائلة فالتقاه النواب وثبتوا لصدمته أولًا ثم انكسرت الميسرة وثبت سودون نائب الشام في الميمنة وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالًا عظيمًا وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفي وولده يشبك بن أزدمر في عدة من الفرسان وقد بذلوا نفوسهم في سبيل الله وقاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء عظيمًا وظهر عن أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعله يذكر إلى يوم القيامة.
ولم يزل أزدمر يقتحم القوم يكر فيهم إلى أن قتل وفقد خبره فإنه لم يقتل إلا وهو في قلب العدو وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره سوى ما في بدنه.
ثم أخذ يشبك وحمل إلى بين يدي تيمور فلما رأى تيمور ما به من الجراح تعجب من إقدامه وثباته غاية العجب وأمر بمداواته فيما قيل ولم تمض غير ساعة حتى ولت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب وركب أصحاب تيمور أقفيتهم فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور حتى النساء والصبيان وازدحم الناس مع ذلك في دخولهم إلى أبواب المدينة وداس بعضهم بعضًا حتى صارت الرمم طول قامة والناس تمشي من فوقها.
إقتحام تيمور لنك حلــب
وقصد نواب المماليك الشامية قلعة حلب وطلعوا إليها فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب. هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب في الحال وأشعلوا فيها النيران وأخذوا في الأسر والنهب والقتل فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع حلب وبقية المساجد فمال أصحاب تيمور عليهن وربطوهن بالحبال أسرى ثم وضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأسرهم وشرعوا في تلك الأفعال القبيحة على عادتهم وصارت الأبكار تفتض من غير تستر والمخدرات يفسق فيهن من غير احتشام بل يأخذ التتري الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع بحضرة الجم الغفير من أصحابه ومن أهل حلب فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلة مقدرته ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهي مكشوفة العورة.
ثم بذلوا السيف في عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى وجافت حلب واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول.
هذا والقلعة في أشد ما يكون من الحصار والقتال وقد نقبها عسكر تيمور من عدة أماكن وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ.فتشاور النواب والأعيان الذين بالقلعة فأجمعوا على طلب الأمان فأرسلوا لتيمور بذلك فطلب تيمور نزول بعض النواب إليه فنزل إليه دمرداش نائب حلب فخلع عليه ودفع إليه أمانًا وخلعًا إلى النواب وأرسل معه عدة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب فطلعوا إليها وأخرجوا النواب منها بمن معهم من الأمراء والأ
عيان وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه فنظر إليهم طويلًا وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام.
ثم أخذ يقرعهم ويوبخهم ويلوم سودون نائب الشام في قتله لرسوله ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به.
ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة ففرقها على أمرائه وأخصائه. واستمر النهب والسبي والقتل بحلب في كل يوم مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد وجافت حلب وظواهرها من القتلى بحيث صارت الأرض منهم فراشًا لا يجد الشخص مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمة قتيل.
وعمل تيمور من رؤوس المسلمين منابر عدة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا حسب ما فيها من رؤوس بني آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس ولما بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها.
ثم رحل تيمور من حلب بعد أن أقام بها شهرًا وتركها خاوية على عروشها خالية من سكانها وأنيسها قد خربت وتعطلت من الأذان والصلوات وأصبحت خرابًا يبابًا مظلمة بالحريق موحشة قفرًا لا يأويها إلا البوم والرخم. وسار تيمور قاصدًا جهة دمشق فمر بمدينة حماة وكان أخذها ابنه ميران شاه. وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول المذكور وأحاط بها بعساكره بعد أن نهب خارج مدينة حماة وسبى النساء والأطفال وأسر الرجال واستمرت أيدي أصحابه يفعلون في النساء والأبكار تلك الأفعال القبيحة وخربوا جميع ما هو خارج عن سور المدينة.
هذا وقد استعد أهل حماة للقتال وركب الناس سور المدينة وامتنعوا من تسليم المدينة وباتوا على ذلك فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور ففتحوا له بابًا من أبواب المدينة ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان فقدم الناس عليه وقدموا له أنواع المطاعم فقبلها منهم وعزم أن يقيم رجلًا من أصحابه عليها فقيل له: إن الأعيان قد خرجوا منها فخرج إلى مخيمه وبات به. ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير ومع ذلك فإن قلعة حماة لم يتسلمها بل كانت امتنعت عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرهما بالمدينة فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها وآقتحم البلد وأشعل النار بها وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب غير أنه كان رفق بأهل حلب فإنه كان سأل قضاة حلب لما صاروا في أسره عن قتاله ومن الشهيد.
فأجاب محب الدين محمد بن محمد بن الشحنة الحنفي بأن قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد فأعجبه ذلك وحادثهم فطلبوا منه أن يعفو عن أهل حلب ولا يقتل أحدًا فأمنهم جميعًا وحلف لهم فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.
وأما أهل دمشق فإنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة والاستعداد لقتال العدو المخذول فأخذوا في ذلك فقدم عليهم المنهزمون من حماة فعظم خوف أهلها وهموا بالجلاء فمنعوا من ذلك ونودي: من سافر نهب فعاد إليها من كان خرج منها وحصنت دمشق ونصبت المجانيق على قلعة دمشق ونصبت المكاحل على أسوار المدينة واستعدوا للقتال استعدادًا جيدًا إلى الغاية.
ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب الغيبة بدمشق ليتسلموا منه دمشق فهم نائب الغيبة بالفرار فرده العامة ردًا قبيحا وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها واستغاث النساء والصبيان وخرجت النساء حاسرات لا يعرفن أين يذهبن حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد.
وقدم الخبر في أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشامية ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان.
أمراء الديار المصرية
فإنه لما كان ثامن عشر ضهر ربيع الأول وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيام فرقت الجماكي على المماليك السلطانية بسبب السفر. ثم في عشرينه نودي على أجناد الحلقة بالقاهرة أن يكونوا في يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الشعباني الدوادار للعرض عليه.
ثم في خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وأنه يحاصر قلعتها فكذبوا ذلك وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه ووقع الشروع في النفقة فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم. ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر.
ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة والأمير آقباي الحاجب ونودي بين أيديهم: الجهاد في سبيل الله تعالى لعدوكم الأكبر تيمورلنك فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب وقتل الأطفال على صدور الأمهات وأخرب الدور والجوامع والمساجد وجعلها إسطبلات للمواشي وإنه قاصدكم يخرب بلادكم ويقتل رجالكم فاضطربت القاهرة لذلك واشتد جزع الناس وكثر بكاؤهم وصراخهم وانطلقت الألسنة بالوقيعة في أعيان الدولة.
وأهل شهر ربيع الآخر فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الدوادار وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها بآتفاق دمرداش وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق يخفي بين الناس وبين الخروج من دمشق فإن الأمر صعب أو أن النائب لم يمكن أحدًا من السير.
فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالريدانية بأمرائه وعساكره أو الخليفة والقضاة وتعين الأمير تمراز الناصري أمير مجلس في نيابة الغيبة بالديار المصرية وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة أخر وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة وفي تحصيل ألف فرس وألف جمل وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسفر. ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاي من خجا على رأس نوبة النوب كان في نيابة الإسكندرية بعد موت نائبها فرج الحلبي.
وكان أرسطاي منذ أفرج عنه بطالًا بالإسكندرية فوردت عليه الولاية وهو بها. وأخذ الأمير تمراز في عرض أجناد الحلقة وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلي والبحري لقتال تيمور كل ذلك والسلطان بالريدانية.
ثم خرج الجاليش في بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر وفيه من أكابر الأمراء مقدمي الألوف: الأتابك بيبرس والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة الأمراء والأمير بكتمر الركني أمير سلاح وآقباي حاجب الحجاب ويلبغا الناصري وإينال باي بن قجماس وعدة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.
السلطان الناصر يقود الجيش إلى الشام لقتال تيمور لنك
ثم رحل السلطان ببقية الأمراء والعساكر من الريدانية يريد جهة الشام لقتال تيمورلنك وسار حتى نزل بغزة في يوم عشرين من الشهر واستدعى بالوالد وآقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب كان من القدس وأخلع على الوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى.
وخلع على الأمير آقبغا الجمالي الأطروش باستقراره في نيابة طرابلس عوضًا عن شيخ المحمودي بحكم أسره مع تيمور أيضًا وعلى الأمير تمربغا المنجكي استقراره في نيابة صفد عوضًا عن ألطنبغا العثماني بحكم أسره وعلى طولو من علي باشاه باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن عمر بن الطحان وعلى صدقة بن طويل باستقراره في نيابة القدس وبعث الجميع إلى ممالكهم.
وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء: عندي رأي أقوله وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان فقيل له: وما هو! فقال: الرأي أن السلطان لا يتحرك هو ولا عساكره من مدينة غزة وأنا أتوجه إلى دمشق وأحرض أهلها على القتال وأحصنها - وهي بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان وبها ما يكفي أهلها من المؤونة سنين وقد داخل أهلها أيضًا من الخوف ما لا مزيد عليه فهم يقاتلون قتال الموت وتيمور لا يقدر على أخذها مني بسرعة وهو في عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق المكث بهم بمكان واحد مدة طويلة فإما أنه يدع دمشق ويتوجه نحو السلطان إلى غزة فيتوغل في البلاد ويصير بين عسكرين وأظنه لا يفعل ذلك وإما أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره بالبلاد الشامية وقلة ما في طريقه من الميرة لخراب البلاد فيركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أفقية التمرية إلى الفرات فيظفر منهم بالغرض وزيادة فاستصوب ذلك جميع الناس - حتى تيمور عندما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق - وما بقي إلا أن يرسم بذلك تكلم بعض جهال الأمراء مع بعض في السر ممن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم وقال: أتقتلون رفقته وتسلمونه الشام! والله ما قصده إلا أن يتوجه إلى دمشق ويتفق مع تيمور ويعود يقاتلنا حتى يأخذ منا ثأر رفقته.
وكان نوروز الحافظي بإزاء الوالد فلما سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد فأشار إليه بالسكات والكف عن ذلك. وانفض المجلس وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه وتوجه إلى دمشق فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق وقد جفل أهل دمشق لما بلغهم قرب تيمور إلى دمشق فأخذ الوالد في إصلاح أهل دمشق فوجد أهلها في غاية الاستعداد وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعًا فتأسف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه ولم يسعه إلا السكات.
ثم رحل جاليش السلطان من غزة في رابع عشرين شهر ربيع الآخر ثم رحل السلطان ببقية عسكره من غزة في سادس عشرينه وسار الجميع حتى وافوا دمشق. وكان دخول السلطان دمشق في يوم الخميس سادس جمادى الأولى وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته.
محولة تيمور لنك غزو دمشق
وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه فنزل من قلعة دمشق وخرج بعساكره إلى مخيمه عند قبة يلبغا ظاهر دمشق وتهيأ للقاء تيمور هو بعساكره وقد قصرت المماليك الظاهرية أرماحهم حتى يتمكنوا من طعن التمرية أولًا بأول لازدرائهم عساكر تيمور.
فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثلج في نحو الألف فارس فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة بددوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا. ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمرية وأخبروا بنزول تيمور على البقاع العزيزي " فلتكونوا على حذر فإن تيمور كثير الحيل والمكر " فاحترز القوم منه غاية الاحتراز.
ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز وأولاد شهري آتفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمرية وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس وأن تيمور بعث عسكرًا إلى طرابلس فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نية المسير إلى طاعة السلطان - وكان ذلك من مكايد تيمور - ثم قال: وإن صاحب قبرص وصاحب الماغوصة وغيرهم وردت كتبهم بآنتظار الإذن لهم في تجهيز المراكب في البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة.
ثم في يوم السبت نزل تيمور بعساكره على قطنا فملأت عساكره الأرض كثرة وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيأوا للقتال. وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة وثبت كل من العسكرين ساعة فكانت بينهم وقعة آنكسر فيها ميسرة السلطان وآنهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران وجرح جماعة.
وحمل تيمور بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ فيها دمشق فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه. ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضًا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم لا لضعف عسكرهم فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال.
إنقسام بين أمراء المماليك وإنسحاب الجيش
ثم أرسل تيمور رسولًا آخر في طلب الصلح وكرر القول ثانيًا وظهر للأمراء ولجميع العساكر صحة مقالته وأن ذلك على حقيقته فأبى الأمراء ذلك هذا والقتال مستمر بين الفريقين في كل فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة آختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة منهم الأمير سودون الطيار وقاني باي العلائي رأس نوبة وجمق ومن الخاصكية يشبك العثماني وقمش الحافظي وبرسبغا الدوادار وطرباي في جماعة أخر فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات والتحكم في الدولة وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم. هذا وتيمور في غاية الاجتهاد في أخذ دمشق وفي عمل الحيلة في ذلك.
ثم أعلم بما الأمراء فيه فقوي أمره واجتهاده بعد أن كان عزم على الرحيل واستعد لذلك.
ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجهوا جميعًا إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد البرانية فعظم ذلك على مدبري المملكة لعدم رأيهم وكان ذلك عندهم أهم من أمر تيمور واتفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة وعوده إلى الديار المصرية في الليل ولم يعلموا بذلك إلا جماعة يسيرة ولم يكن أمر لاجين يستحق ذلك بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفي السلطان أمرهم " ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا " فلما كان آخر ليلة الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة عمر يريدون الديار المصرية وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنمًا بلا راع وجدوا في السير ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى مدينة صفد فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر - عليهم من الله ما يستحقوه - بمدينة غزة فكلموهم فيما فعلوه فاعتذروا بعذر غير مقبول في الدنيا والآخرة فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف يريدون اللحاق بالسلطان فأخذ غالبهم العشير وسلبوهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا.
أخبرني غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا في الحال غير أننا لم يعوقنا عن اللحاق به إلا كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق مما رمتها المماليك السلطانية ليخص ذلك عن خيولهم فمن كان فرسه ناهضًا خرج وإلا لحقه أصحاب تيمور وأسروه فمن أسروه قاضي القضاة صدر الدين المناوي ومات في الأسر حسبما يأتي ذكره في الوفيات.
وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانية وغيرهم إلى القاهرة في أسوأ حال من المشي والعري والجوع فرسم السلطان لكل من المماليك السلطانية ألف درهم وجامكية شهرين.
وأما الأمراء فإنهم أيضًا دخلوا إلى مصر وليس مع كل أمير سوى مملوك أو مملوكين وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لما بلغهم توجه السلطان من دمشق وأخذ كل واحد ينجو بنفسه. وأما العساكر الذين خلفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها فإنه كان آجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلًا من تيمور.
ولما أصبحوا يوم الجمعة وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب دمشق وركبوا أسوار البلد ونادوا بالجهاد فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمور بعساكره فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال وردوهم عن السور والخندق وأسروا منهم جماعة ممن كان آقتحم باب دمشق وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة وقتلوا منهم نحو الألف وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة وصار أمرهم في زيادة فأعيا تيمور أمرهم وعلم أن الأمر يطول عليه وبينما أهل دمشق في أشد ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد: الأمير يريد الصلح فابعثوا رجلًا عاقلًا حتى يحدثه الأمير في ذلك.
قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزة في نيابة دمشق وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوة لدفع تيمور عن دمشق وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرزق وهي في الغاية من التحصين وأنه يتوجه إليها ويقاتل بها تيمور فلم يسمع له أحد في ذلك فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدة بأسهم وهم بغير نائب ولا مدبر لأمرهم فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير. انتهى.
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع آختيارهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي فأرخي من سور دمشق إلى الأرض وتوجه إلى تيمور وآجتمع به وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه وتلطف معه في القول وترفق له في الكلام وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عني وعن أولادي ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسري وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا ولم يبق لي الآن غرض إلا العود ولكن لا بد من أخذ عادتي من التقدمة من الطقزات.
وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحًا يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة يسمون ذلك طقزات والطقز باللغة التركية: تسعة وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا.
فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذل الناس عن القتال ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيمًا ويكف أهل دمشق عن قتاله فمال معه طائفة من الناس وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلا قتاله وباتوا ليلة السبت على ذلك وأصبحوا نهار السبت وقد غلب رأي ابن مفلح على من خالفه وعزم على إتمام الصلح ونادى في الناس: إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه فكف الناس عن القتال.
وفي الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة فبادر ابن مفلح وآستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار حمل ذلك كل أحد بحسب حاله فشرعوا في ذلك حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك وهددهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك فلم يلتفتوا إلى قوله وقالوا له: " أنت احكم على قلعتك ونحن نحكم على بلدنا " وتركوا باب النصر وتوجهوا وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور وتدلى ابن مفلح من السور أيضًا ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيم تيمور وباتوا به ليلة الأحد وعادوا بكرة الأحد وقد استقر تيمور بجماعة منهم في عدة وظائف ما بين قضاة القضاة والوزير ومستخرج الأموال ونحو ذلك معهم فرمان من تيمور لهم وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصة فقرىء الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط وقدم أميرمن أمراء تيمور جلس فيه ليحفظ البلد ممن يعبر إليها من عساكر تيمور فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به وأكثر ابن مفلح ومن كان توجه معه من أعيان دمشق الثناء على تيمور وبث محاسنه وفضائله ودعا العامة لطاعته وموالاته وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر لتيمور عليهم وهو ألف ألف دينار وفرض ذلك على الناس كلهم فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم.
فلما كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه فلما عاينه غضب غضبًا شديدًا ولم يرض به وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه فأخرجوا من وجهه ووكل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان - والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب إلا أن سعر الذهب عندهم يختلف وعلى كل حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار - فالتزموا بها وعادوا إلى البلد وفرضوها ثانيًا على الناس كلها عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى حر وعبد بعشرة دراهم وألزم مباشر كل وقف بحمل مال له جرم فنزل بالناس بآستخراج هذا منهم ثانيًا بلاء عظيم وعوقب كثير منهم بالضرب فغلت الأسعار وعز وجود الأقوات وبلغ المد القمح - وهو أربعة أقداح - إلى أربعين درهمًا فضة وتعطلت صلاة الجمعة من دمشق فلم تقم بها جمعة إلا مرتين حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولي عهده ابن الأمير تيمورلنك وكان السلطان محمود مع تيمور آلة كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلا من يكون من ذرية الملوك. انتهى.
خدعة تيمور لنك فى الصلح
ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور. ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق وأعوان تيمور تحاصره أشد حصار حتى سلمها بعد تسعة وعشرين يومًا وقد رمي عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر.
يكفيك أن التمرية من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة رمى أهل قلعة دمشق نفطًا فأحرقوها عن آخرها فأنشأوا قلعة ثانية أعظم من الأولى وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة. هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلا نفر قليل دون الأربعين نفرًا وطال عليهم الأمر قلت: لا شلت يدهم! هؤلاء هم الرجال الشجعان.
تيمور لنك يعذب أهل دمشق
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: " هذا المال بحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف ألف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار وظهر لي أنكم عجزتم ".
وكان تيمور لما اتفق أولًا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور فخرج إليه آبن مفلح بأموال أهل مصر جميعها فلما صارت كلها إليه وعلم أنه آستولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من دمشق فسارعوا أيضًا إلى حمل ذلك كله وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها فتتبعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شيء فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها فكتبوا فلك ودفعوه إليه ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال فحينئذ حل بأهل دمشق من البلاء مالا يوصف وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار والتعليق منكوسًا وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح ثم تعاد عليه العقوبة أنواعًا فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت ويقول: ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير فيشاهد الرجل المعذب امرأته أو بنته وهي توطأ وولده وهو يلاط به فيصرخ هو من ألم العذاب والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط وكل ذلك من غير تستر في النهار بحضرة الملأ من الناس.
ورأى أهل دمشق أنواعًا من العذاب لم يسمع بمثلها منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشد رأسه بحبل ويلوونه حتى يغوص في رأسه ومنهم من كان يضع الحبل بكتفي الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان ومنهم من كان يربط إبهام يدي المعذب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويفر في منخريه الرماد مسحوقًا فيقر على ما عنده شيئًا بعد شيء حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدقه صاحبه على ذلك فلا يزال يكرر عليه العذاب حتى يموت ويعاقب ميتًا مخافة أن يتماوت.
ومنهم من كان يعلق المعذب بإبهام يديه في سقف الدار ويشعل النار تحته ويطول تعليقه فربما يسقط فيها فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق ثم يعلقه ثانيًا.
وآستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يومًا آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شيء خرجوا إلى تيمور فسألهم: هل بقي لكم تعلق في دمشق فقالوا: لا فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق أتباع الأمراء فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الحور وغيرها وسبوا نساء دمشق بأجمعهن وساقوا الأولاد والرجال وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها وساقوا الجميع مربوطين في الحبال.
ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد وكان يوم عاصف الريح فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة.
وكان تيمور - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعد ما أقام على دمشق ثمانين يومًا وقد آحترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة.
وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالًا بالية ورسومًا خالية ولم يبق بها دابة تدب إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف فيهم من مات وفيهم من سيموت من الجوع.
وأما السلطان الملك الناصر فرج فإنه أقام بغزة ثلاثة أيام وتوجه إلى الديار المصرية بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية فقدم آقبغا إلى القاهرة في يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزة فآرتخت القاهرة وكادت عقول الناس تزهق وظن كل أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور وأن تيمور في أثره وأخذ كل أحد يبيع ما عنده ويستعد للهروب من مصر وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالًا.
فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونواب البلاد الشامية ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية وقيل نحو الخمسمائة.
يوم السبت سابع جمادى الآخرة المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية كانت موفرة في الديوان السلطاني بعد استعفائه من نيابة دمشق وعين السلطان لنيابة دمشق آقبغا الجمالي الأطروش ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة.
ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمي الأستادار أن يتحدث في جميع ما يتعلق بالمملكة وأن يجهز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور فشرع يلبغا السالمي المذكور في تحصيل الأموال وفرض على سائر أراضي مصر فرائض من إقطاعات الأمراء وبلاد السلطان وأخباز الأجناد وبلاد الأوقاف عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم فضة وفرس.
ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر حتى إنه كان يقوم على الإنسان داره التي يسكنها ويؤخذ منه أجرتها وأخذ من الرزق وهي الأراضي التي يأخذ مغلها قوم على سبيل البر والصدقة عن كل فدان عشرة دراهم وكان يوم ذاك أجرة الفدان من ثلاثين درهمًا إلى ما دونها.
قلت: أخذ نصف خراجها بدورة دارها وأخذ من الفدان القصب أو القلقاس أو النيلة من القنطار مائة درهم وهي نحو أربعة دنانير وجبى من البساتين عن كل فدان مائة درهم.
ثم استدعى أمناء الحكم والتجار وطلب منهم المال على سبيل القرض وصار يكبس الفنادق والحواصل في الليل فمن وجده حاضرًا فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد وهي الذهب والفضة والفلوس وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهي الذهب والفضة والفلوس وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم تستخرج مما تقدم ذكره ثلاثة دراهم ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم وإن كان نقيبًا أخذ عشرة دراهم - قاله الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله - قال: فاشتد ما بالناس وكثر دعاء الناس على السالمي.
قلت: وبالجملة فهم أحسن حالًا من أهل دمشق وإن أخذ منهم نصف مالهم وأيش يعمل السالمي مسكين! وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور. انتهى.
ثم خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظي وعلى الأمير يشبك الشعباني واستقرا مشيري الدولة ومدبري أمورها.
ثم في ثالث عشره خلع على القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي قاضي العسكر بآستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي وعلى القاضي جمال الدين عبد الله الأقفهسي بآستقراره قاضي قضاة المالكية بالديار المصرية عوضًا عن القاضي نور الدين علي بن الجلال بحكم وفاته. وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلاثمائة مملوك بأسوأ حال: من المشي والعري والجوع.
ثم في حادي عشرينه حضر إلى القاهرة قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي من دمشق بأسوأ حال وقدم أيضًا قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن البقاء الشافعيوحضر كتاب تيمورلنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانية يتضمن طلب أطلمش أطلندي وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنواب وغيرهم وقاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي ويرحل عن دمشق فطلب أطلمش من البرج بالقلعة وأطلق وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير وعين للسفر معه قطلوبغا العلائي والأمير محمد بن سنقر.
ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخي الأمير آخور رسولًا من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر. هذا ويلبغا السالمي يجد في تحصيل الأموال وأخذ في عرض أجناد الحلقة وألزم من كان منهم قادرًا على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل أو تحصيل نصف مغله في السنة وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كل إردب درهم أو أن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم.
ثم في يوم الثلاثاء أول شهر رجب أمر السالمي أن تضرب دنانير فيها ما زنة الدينار مائة مثقال ومثقال وفيها ما زنته تسعون مثقالًا ومثقال ثم ما دون ذلك إلى أن وصل منها دينار زنته ثم في ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبي كم بآستقراره وزيرًا بديار مصر عوضًا عن فخر الدين ماجد بن غراب.
ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمدي نائب حلب تخلص من تيمور وجمع جموعًا من التركمان وأخذ حلب وقلعتها من التمرية وقتل منهم جماعة كبيرة. ثم خلع السلطان على شاهين الحلبي نائب مقدم المماليك باستقراره في تقدمة المماليك السلطانية عوضًا عن صواب المعروف بجنكل واستقر الطواشي فيروز من جرجي مقدم الرفرف نائب المقدم.
ثم حضر في سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستة آلاف فارس وحضر من عربان الشرقية من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس ومن العيساوية وبني وائل ألف وخمسمائة فارس فأنفق فيهم يلبغا السالمي الأموال ليتجهزوا لحرب تيمور.
ثم حضر في ثامنه قاصد الأمير نعير وذكر أنه جمع عربانًا كثيرة ونزل بهم على تدمر وأن تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيفة هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمي والعمل في زواله حتى تم لهم ذلك.
فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمي وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولي الوزر قبل تاريخه وسلما لسعد الدين إبراهيم بن قلت: فصار حاله كالمثل السائر " أفقرني فيما أحب ولا استغنى ". ثم في ثامن عشره استقر سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستادارًا عوضًا عن السالمي مضافًا لما بيده من وظيفتي نظر الجيش والخاص.
ثم في خامس شعبان برز الأمراء المعينون للسفر لقتال تيمور بمن عين معهم من المماليك السلطانية وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة وهم الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق وتقدم الجميع الأمير تمراز الناصري الظاهري أمير مجلس والأمير آقباي من حسن شاه الظاهري حاجب الحجاب ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخي والأمير تمان تمر والأمير صوماي الحسني وامتنع الأمير جكم من السفر.
وفي اليوم قدم الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس فارًا من أسر تيمور إلى الديار المصرية وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده فرسم السلطان بإبطال السفر ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة.
ثم في الغد قدم دقماق المحمدي نائب حماة فارًا أيضًا من تيمور. وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره في نيابة دمشق ثانيًا على كره منه وكانت شاغرة في ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودي بآستقراره في نيابة طرابلس على عادته وعلى الأمير دقماق المحمدي باستقراره في نيابة حماة على عادته.
ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكي باستقراره في نيابة صفد وعلى الأمير تنكز بغا الحططي بنيابة بعلبك.
ثم نودي بالقاهرة ألا يقيم بها أحد من الأعاجم وأمهلوا ثلاثة أيام وهدد من تخلف منهم بالقاهرة فلم يخرج أحد وأكثر الناس من الكتابة في الحيطان: لا من نصرة الإسلام قتل الأعجام كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة.
البلاد الشامية حصل بها جراد عظيم بعد خروج تمرلنك منها فزادت خرابًا على خراب.
============================================================