صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
المؤلف : ابن تغري بردي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

وأما يلبغا المجنون فإنه عدى من البحيرة إلى الغربية خوفاً من عرب البحيرة، ودخل المحلة ونهب دار الكاشف، ودار إبراهيم بن بدوي كبيرها، وقبض عليه وأخذ منه ثلاثمائة قفة فلوس. ثم عدى بعد أيام من سمنود إلى بر أشموم طناح، وسار إلى الشرقية ونزل على مشتول الطواحين، وسار منها إلى العباسة، فارتخت القاهرة وبعث الأمير بيبرس إلى بر الجيزة حيث الخيول مربوطة به على الربيع، فأحضروها إلى القاهرة خوفاً من يلبغا، لئلا يطرقها على حين غفلة. وبينما بيبرس في ذلك ورد عليه الخبر بمخامرة كاشف الوجه القبلي مع العرب، فاضطرب بيبرس وخاف على القاهرة، وكان فيه لين جانب وانعكاف على اللهو والطرب، فشرع بيبرس في استخدام الأجناد وأراد بيبرس الخروج إلى يلبغا المجنون، فمنع، وخرج إليه الأمير آقباي الحاجب، ويلبغا السالمي، وبيسق أمير آخور، ومحمد بن سنقر في ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية كما سنذكره.
وأما السلطان الملك الناصر فإنه لما سار بعساكره من الريدانية، استقل بالمسير من يومه حتى نزل على منزلة تل العجول خارج مدينة غزة في ثامن عشر رجب، وأقام به يومه، فلم يلبث إلا وجاليش الأمير تنم طرقه، ومقدم العسكر المذكور الوالد، وصحبته من أكابر الأمراء والنواب: آقبغا الجمالي نائب حلب، ودمرداش المحمدي نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وجقمق الصفوي نائب ملطية، وجماعة أخر. ومن أكابر الأمراء: أرغون شاه أمير مجلس، وفارس الحاجب، وآقبغا الطولوتمري اللكاش، ويعقوب شاه، وجماعة كبيرة من الأمراء والعساكر، فركبت العساكر المصرية في الحال، وقاتلوهم من بكرة النهار إلى قريب الظهر، وكل من الفريقين يبذل جهده في القتال، والحرب تشتد بينهم، إلى أن خرج من جاليش عسكر تنم دمرداش المحمدي نائب حماة بمماليكه وطلبه، ثم تبعه ألطنبغا العثماني نائب صفد بطلبه وعساكره، ثم صراي تمر الناصري أتابك حلب بمماليكه، ثم جقمق الصفوي نائب ملطية بطلبه ومماليكه، ثم فرج بن منجك أحد أمراء الألوف بطلبه ومماليكه، ثم تبعهم عدة أمراء أخر فعند ذلك انهزم الوالد بمن بقي معه إلى نحو الأمير تنم، وملك السلطان الملك الناصر مدينة غزة، ونزل على مصطبة السلطان.
وأما تنم فإنه نزل بعساكره على مدينة الرملة، واجتمع عليه الوالد بها بمن بقي معه في العساكر الشامية، وقص عليه ما وقع من أمر القتال وهروب الأمراء من عسكره، فتأثر تنم قليلاً. ثم أراد القبض على الأمير بتخاص، فمنعه بعض أصحابه من ذلك، ثم أخذ يتهيأ لقتال المصريين، ولم يكترث بما وقع لجاليشه لكثرة عساكره، وقوته بمن بقي معه من أكابر الأمراء وغيرهم.
وأما العسكر السلطاني المصري فإنهم لما دخلوا إلى غزة بلغهم أن تنم إلى الآن لم يصل إلى الرملة بعساكره، وإنما الذي قاتلهم هو جاليش عسكره، فكثر عند ذلك تخوفهم منه، وداخلهم الرعب، وعملوا بسبب ذلك مشورة، فاتفق الرأي أن يتكلموا معه في الصلح، وأرسلوا إليه من غزة قاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي، ومعه المعلم نصر الدين محمد الرماح أمير آخور، وطغاي تمر مقدم البريدية، فخرجوا الجميع من غزة في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب، وكتب لتنم صحبتهم أمان من السلطان، وأنه باق على كفالته بدمشق إن أراد ذلك، وإلا فيكون أتابك العساكر بمصر، وإليه تدبير ملك ابن أستاذه الملك الناصر فرج، لا يشاركه في ذلك أحد.

(3/387)


ثم كتب إليه أعيان الأمراء يقولون: " أنت أبونا وأخونا وأستاذنا؛ فإن أردت الشام فهي لك، وإن أردت مصر كنا مماليكك، وفي خدمتك؛ فصن دماء المسلمين ودع عساكر مصر في قوتها، فإن خلفنا مثل تيمورلنك " ، وأشياء كثيرة من أنواع التضرع إليه فسار إليه قاضي القضاة المذكور برفيقيه حتى وافاه بمدينة الرملة وهو بمخيمه على هيئة السلطان، والأتابك أيتمش عن يمينه والوالد عن يساره، وبقية الأمراء على منازلهم ميمنة وميسرة فلما عاين تنم قاضي القضاة المذكور، قام له واعتنقه، وأجلسه بجانبه؛ فحدثه قاضي القضاة المذكور في الصلح، وأدى له الأمان ووعظه، وحفره الشقاق والخروج عن الطاعة؛ ثم كلمه ناصر الدين الرماح وطغاي تمر بمثل ذلك، وترققا له عن لسان الأمراء، وأن السلطان هو ابن الملك الظاهر برقوق، " ليس له من يقوم بنصرته غيرك " ، فقال تنم: أنا مالي مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلي يشبك الشعباني، وسودون طاز وجركس المصارع،، وعدد جماعة أخر كثيرة، " ويعود الأمير الكبير أيتمش وجميع رفقته على ما كانوا عليه أولاً، فإن فعلوا ذلك وإلا فما بيني وبينهم إلا السيف " . وصمم على ذلك، فراجعه قاضي القضاة غير مرة فيما يريده غير ذلك، فأبى إلا ما قاله؛ فعند ذلك قام القاضي من عنده، فخرج معه تنم إلى ظاهر مخيمه يوادعه فلما قدم صدر الدين المناوي على الملك الناصر وأعاد عليه الجواب قال السلطان: " أنا ما أسلم لا لاتي لأحد " - يعني عن يشبك الشعباني. وانفض الأمراء، وقد أجمعوا على قتاله.
وركب تنم بعساكره من مدينة الرملة يريد جهة غزة، وركب السلطان بعساكره من غزة يريد الرملة، إلى أن أشرف على الجيتين قريب الظهر،فعاين تنم وقد عبأ عساكره، وهم نحو الخمسة آلاف فارس، ونحو ستة آلاف راجل، وصف الأطلاب، فعبى أيضاً الأمراء عسكر السلطان ميمنة وميسرة، وقلباً في قلب في قلب، ولكل جملة رديف؛ وكان ذلك تعبئة ناصر الدين المعلم، أخذت أنا هذه التعبئة عن الأتابك آقبغا التمرازي عنه، انتهى.
ثم تقدم العسكران وتصادما فلم يكن إلا أسرع وقت، وكانت الكسرة على تنم وانهزم غالب عسكره من غير قتال، خذلاناً من الله تعالى، لأنه تقنطر عن فرسه في أوائل الحرب، فانكسرت عساكره لتقنطره في الحال ولوقوعه في الأسر، وقبض عليه وعلى جماعة كبيرة من أعيان أصحابه من أكابر الأمراء والنواب. ولقد سألت جماعة من أعيان مماليك تنم ممن كان في الوقعة المذكورة عن سبب تقنطره، فإنه لم يطعنه أحد من العسكر السلطاني، فقالوا: " كان في فرسه الذي ركبه شؤم: إما شعر رسل أو تحجيل - منتهى الوهم مني - قالوا: فكلمناه في ذلك ونهيناه عن ركوبه، فأبى إلا ركوبه، وقال: ما خبأته إلا لهذا اليوم. فحال ما علا ظهره وحركه لينظر حال عسكره، ووغل في القوم، تقنطر به؛ وقد كرت عساكره إلى نحوه، ولم يلحقه أحد من مماليكه، فظفر به ولما قبض على تنم قبض معه بعد هزيمة عسكره على الأمير آقبغا الجمالي نائب حلب، ويونس بلطا نائب طرابلس، وأحمد بن الشيخ علي نائب صفد كان، وجلبان قراسقل نائب حلب كان، وفارس حاجب الحجاب، وبيغوت وبيرم رأس نوبة أيتمش، وشادي خجا، ومن الطبلخانات والعشرات من أمراء مصر والشام ما ينيف على مائة أمير؛ وفر الأتابك أيتمش والوالد، وأحمد بن يلبغا أمير مجلس كان، وأرغون شاه أمير مجلس، ويعقوب شاه، وآقبغا اللكاش، وبي خجا طيفور نائب غزة كان، وجماعة أخر في نحو ثلاثة آلاف مملوك، وتوجهوا إلى دمشق.
ولما قبض على تنم أنزل في خيمة وقيد؛ ثم شكا العطش وطلب ماء ليشربه، فقام الأمير قطلوبغا الحسني الكركي، وهو يوم ذلك أحد أمراء الطبلخانات وشاد الشراب خاناه السلطانية، وتناول الكوز وأخذ ششنة على عادة الملوك، ثم سقاه لتنم. وكان لما أمسك ادعى مملوك من الظاهرية أنه قنطر تنم عن فرسه، وطلب إمرة عشرة، فلما بلغ ذلك تنم قال: " اطلبوه إلى عندي " فأحضروه، فنظر إليه طويلاً ثم قال له: " أنت تستأهل إمرة عشرة وغيرها بدون ذلك، إلا أن الكذب قبيح هذا قرقلي إلى الآن علي أين المكان الذي طعنتني فيه برمحك. أنا ما رماني إلا الله تعالى، ثم فرسي الأشقر " .

(3/388)


وعندما أمسك تنم كتبت البشائر إلى الديار المصرية والبلاد الشامية بذلك، ودقت البشائر وسار أيتمش ورفقته إلى نحو دمشق حتى وصلوها، فأراد الوالد ويعقوب شاه وجماعة أن يتوجهوا إلى بلاد التركمان، حتى يأتيهم أمان من السلطان، وأشاروا على أيتمش بذلك، فآمتنع أيتمش من ذلك، وأبى إلا دخول دمشق؛ فحال دخولهم إليها، وهم في أشد ما يكون من التعب، وقد كفت خيولهم، ثار عليهم أمراء دمشق، وقبضوا على أيتمش والوالد، وآقبغا اللكاش وأحمد بن يلبغا النابلسي، وحبسوا بدار السعادة. وفر من بقي ثم أمسك بعد يومين أرغون شاه ويعقوب شاه وتتبع أمراء دمشق بقية أصحاب تنم من كل مكان حتى قبضوا على جماعة كبيرة منهم.
وأما يلبغا المجنون فإنه لما خرج إليه العسكر من مصر مع آقباي الحاجب، سار آقباي إلى العباسية فلم يقف ليلبغا المجنون على خبر، فقيل له إنه سار إلى قطيا، فنزل آقباي بالعساكر على الصالحية فلم يروا له أثراً، فعادوا إلى القاهرة من غير حرب وسار ابن سنقر وبيسق نحو بلاد السباخ فلم يجدا أحداً، فعادا إلى غيتا في يوم الجمعة وأقاما بها، فلم يشعرا إلا ويلبغا المجنون قد طرقهما وقبض عليهما، وأخذ خطهما بجملة من المال، فارتخت القاهرة لذلك ثم سار يلبغا بعد أيام، حتى نزل البئر البيضاء، فبعث له بيبرس أماناً، فقبض على من حضر من عند بيبرس وطوقه بالحديد، فاستعد الناس تلك الليلة بالقاهرة لقتاله، وباتوا على أهبة اللقاء وركب الأمراء بأسرهم من الغد إلى قبة النصر خارج القاهرة، وصفوا عسكرهم من الغد. وبعد ساعة أقبل يلبغا المجنون بجموعه، فواقعهم عند بساتين المطرية، ومعه نحو ثلاثمائة فارس، فيهم واحد من مماليك الوالد يسمى كزل بغا، وصدمهم بمن معه، وقصد القلب، وكان فيه سودون من زادة، وإينال حطب، ونحو ثلاثمائة مملوك من المماليك السلطانية، فأطبق عليه الأمير بيبرس من الميمنة، ومعه يلبغا السالمي الأستادار، وساعدهما إينال باي بن قجماس بمن معه من الميسرة، فتقنطر سودون من زادة، وخرق يلبغا المجنون القلب في عشرين فارساً، وسار إلى جهة الجبل الأحمر، وانكسر سائر من كان معه من الأمراء وغيرهم، فتبعهم العسكر وفي ظنهم أن يلبغا المجنون فيهم، فأدركوا الأمير تمربغا المنجكي بالزيات، وقبضوا عليه وأخذ طلب يلبغا المجنون من عند خليج الزعفران فوجدوا فيه ابن سنقر وبيسق الشيخي أمير آخور اللذين كان قبض عليهما يلبغا المجنون بالبئر البيضاء، فأطلقوهما، وعاد العسكر إلى تحت قلعة الجبل وسار يلبغا المجنون في عشرين فارساً مع ذيل الجبل إلى تجاه دار الضيافة؛ فلما رأى كثرة من اجتمع من العامة خاف منهم أن يرجموه، فقال لهم: " أنتم ترجموني بالحجارة وأنا أرجمكم بالذهب " ، فدعوا له وتركوه. فسار من خلف القلعة ومضى إلى جهة الصعيد من غير أن يعرف الأمراء، وتوجه في نحو المائة فارس، وأخذ خيل والي الفيوم، وانضم عليه جماعة من العربان.
وأما السلطان الملك الناصر فإنه لما كسر تنم وقبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وقيدهم، أرسل في الحال سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى الشام لتحصيل الإقامات ثم ندب السلطان الأمير جكم من عوض رأس نوبة للتوجه إلى دمشق لتقييد الأمير أيتمش ورفقته وإيداعهم بسجن قلعة دمشق ثم خلع السلطان على الأمير سودون الدوادار المعروف بسيدي سودون باستقراره في نيابة دمشق عوضاً عن الأمير تنم الحسني. وسار جكم وفعل ما أمر به، ثم دخل بعده سودون نائب الشام إليها في ليلة الاثنين ثاني شعبان ومعه الأمير تنم نائب الشام وعشرة أمراء في القيود، فحبس الجميع بقلعة دمشق. ثم دخل السلطان الملك الناصر بعساكره وأمرائه إلى دمشق من الغد في يوم الاثنين ثاني شعبان المذكور، فكان لدخوله يوم مشهود وأوقع ابن غراب الحوطة على حواشي تنم، وعلى الأمير علاء الدين ابن الطبلاوي.

(3/389)


ثم أصبح السلطان من الغد وخلع على سيدي سودون بنيابة الشام ثانياً، وعلى الأمير دمرداش المحمدي نائب حماة باستقراره في نيابة حلب عوضاً عن آقبغا الجمالي الأطروش، وعلى الأمير شيخ المحمودي المؤيد باستقراره في نيابة طرابلس عوضاً عن سودون بلطا، وعلى الأمير دقماق المحمدي باستقراره في نيابة حماة عوضاً عن دمرداش المحمدي، وعلى الأمير ألطنبغا العثماني باستمراره على نيابة صفد، وعلى الأمير جنتمر التركماني نائب حمص بنيابة بعلبك، وعلى الأمير بشباي من باكي باستقراره حاجب حجاب دمشق عوضاً عن بي خجا المدعو طيفور.
واستمر السلطان بعساكره في دمشق إلى ليلة الأحد رابع عشر شعبان، فاتفقت الأمراء المصريون على قتل جماعة من المقبوض عليهم، فذبح في الليلة المذكورة الأمير الكبير أيتمش البجاسي، وجلبان الكمشبغاوي المعروف بقراسقل نائب حلب كان في دولة أستاذه الملك الظاهر برقوق، وأرغون شاه البيدمري الظاهري أمير مجلس كان، وأحمد بن يلبغا العمري أمير مجلس كان وابن أستاذ الملك الظاهر برقوق، وآقبغا الطولوتمري الظاهري اللكاش أحد أمراء الألوف بالديار المصرية وأمير مجلس، وفارس الأعرج حاجب الحجاب بالديار المصرية، وكان من الشجعان، وفيه يقول الشيخ المقرئ الأديب شهاب الدين أحمد الأوحدي:
يا دهر كم تفني الكرام عامداً ... هل أنت سبع للورى ممارس
أيتمش رب العلا صرعته ... ورحت للندب الهمام فارس
والأمير يعقوب شاه الظاهري الحاجب الثاني وأحد مقدمي الألوف بالديار المصرية، وبي خجا المدعو طيفور نائب غزة كان ثم حاجب حجاب دمشق، والأمير بيغوت اليحياوي الظاهري أحد أمراء الطبلخانات، والأمير مبارك المجنون، والأمير بهادر العثماني الظاهري نائب البيرة وجميع من قتل من هؤلاء المذكورين هم من عظماء مماليك الملك الظاهر برقوق، قتلتهم خجداشيتهم بذنب واحد لأجل الرئاسة، ولم يكن فيهم غير ظاهري إلا الأتابك أيتمش، وهو أيضاً ممن أقامه الملك الظاهر برقوق وأنشأه، بل كان اشتراه أيضاً في سلطنته الأولى حسب ما ذكرناه وكان أيتمش عند الظاهر بمنزلة عظيمة لسلامة باطنه، ولين جانبه وشيخوخته؛ فإنه كان بمعزل عن إثارة الفتن؛ ويكفيك أن منطاشاً لما ملك الديار المصرية، بعد خلع الظاهر برقوق والقبض على الناصري، قتل غالب حواشي الملك الظاهر برقوق، وكان أيتمش في حبسه بقلعة دمشق وهو أتابك العساكر وعظيم دولة برقوق، فلم يتعرض إليه بسوء، لكونه كان مكفوفاً عن الشرور والفتن، إلا هؤلاء القوم، فإنهم لما ظفروا بتنم وأصحابه لم يرحموا كبيراً لكبره ولا صغيراً لصغره، ولهذا سلط الله تعالى بعضهم على بعض، إلى أن تفانوا جميعاً.
ثم جهزوا رأس الأتابك أيتمش المذكور، ورأس فارس الحاجب لا غير إلى الديار المصرية، فعلقتا بباب قلعة الجبل، ثم بباب زويلة أياماً، ثم سلمتا إلى أهلهما.
ثم خلع السلطان الملك الناصر على الأمير يشبك الشعباني الخازندار باستقراره دواداراً كبيراً عوضاً عن سيدي سودون المنتقل إلى نيابة الشام واستمر السلطان بدمشق إلى ليلة الخميس رابع شهر رمضان، فقتل في الليلة المذكورة الأمير تنم الحسني نائب الشام بمحبسه بقلعة دمشق، وقتل معه الأمير سودون بلطا نائب طرابلس أيضاً، خنقاً بعد أن استصفيت أموالهما بالعقوبة، ثم سلما إلى أهلهما، فدفن تنم بتربته التي أنشأها عند ميدان الحصى خارج دمشق. وكان تنم المذكور - رحمه الله - من محاسن الدنيا، وكانت مدة ولايته على دمشق سبع سنين وستة أشهر ونصفاً. ولقد أخبرني بعض مماليك الوالد - رحمه الله - قال: لما حضر تيمورلنك العساكر المصرية بدمشق، كان الوالد يوم ذلك متولي نيابة دمشق، وكان مقيماً على بعض أبواب دمشق لحفظها، وكان نوروز الحافظي على باب آخر؛ فركب نوروز الحافظي في بعض الأيام، وأتى الوالد ووقف يحدثه، فكان من جملة كلامه للوالد: يا فلان، انظر عساكر هذا اللعين ما أكثرها! والله لو عاش أستاذنا لما قدر عليه لكثرة عساكره فتبسم الوالد وخاشنه في اللفظ يمازحه، وقال له: والله لو كان تنم حياً للقيه من الفرات وهزمه أقبح هزيمة؛ وإنما عساكرنا الآن مفلولة، وآراؤهم مختلفة، وليس فيهم من يرجع إلى كلامه، فلهذا كان ما ترى. انتهى.

(3/390)


ثم دفن سودون بلطا بصالحية دمشق، وكان أيضاً ولي نيابة طرابلس نحو بست سنين. ثم قتل جميع من كان من أصحاب أيتمش وتنم، ولم يبق منهم إلا آقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب، والوالد أبقي لشفاعة أخته خوند شيرين. أم السلطان الملك الناصر فرج فيه، فإنها كانت ألزمت الأمير نوروز الحافظي والأمير يشبك الشعباني بالوالد وحرضتهما على بقائه، وكان لها يوم ذلك جاه كبير لسلطنة ولدها الملك الناصر، ثم أوصت ولدها الملك الناصر أيضاً به، فزاد ذلك فسحة الأجل فأبقي وأما آقبغا الأطروش فإنه بذل في إبقائه مالاً كبيراً للأمراء فأبقي.
ثم خلع السلطان على الأمير بتخاص السودوني باستقراره في نيابة الكرك عوضاً عن سودون الظريف.
ثم خرج السلطان بعساكره وأمرائه من مدينة دمشق في يوم رابع شهر رمضان صبيحة قتل تنم وسودون يريد الديار المصريه. وسار حتى نزل غزة في ثاني عشر شهر رمضان المذكور وقتل بغزة علاء الدين على ابن الطبلاوي أحد أصحاب تنم ثم خرج من غزة وسار يريد القاهرة حتى وصلها في سادس عشرين رمضان من سنة اثنتين وثمانمائة، بعد أن زينت القاهرة، وفرشت له الشقاق الحرير من تربة الأمير يونس الدوادار بالصحراء إلى قلعة الجبل، وكان يوم دخوله إلى مصر من الأيام المشهودة، وطلع إلى القلعة وكثرت التهاني بها لمجيئه.
ثم في ثامن عشرينه أنعم السلطان على الأمير قطلوبغا الكركي الحسني الظاهري بإقطاع سيدي سودون نائب الشام، وأنعم على الأمير آقباي الكركي الخازندار بإقطاع شيخ المحمودي المنتقل إلى نيابة طرابلس، وأنعم على الأمير جركس القاسمي المصارع بإقطاع مبارك شاه، وأنعم على الأمير جكم من عوض بإقطاع دقماق المحمدي نائب حماة، والجميع تقادم ألوف، وأنعم على الأمير الطواشي مقبل الزمام بإقطاع الطواشي بهادر الشهباني مقدم المماليك بعد موته، وأنعم بإقطاع مقبل على الطواشي صواب السعدي المعروف بشنكل، وقد استقر مقدم المماليك بعد موت بهادر المذكور، وأنعم بإقطاع صواب المذكور على الطواشي شاهين الألجائي نائب مقدم المماليك.
ثم قدم على السلطان مملوك الأمير يلبغا المجنون من بلاد الصعيد بكتاب يلبغا المجنون يسأل في نيابة الوجه القبلي، فرسم السلطان أن يخرج إليه تجريدة من الأمراء وهم: الأمير نوروز الحافظي وهو مقدم العسكر المذكور، وبكتمر أمير سلاح، وآقباي الحاجب، وتمراز أمير مجلس، ويلبغا الناصري، وإينال باي بن قجماس، وأسنبغا الدوادار، وتتمة ثمانية عشر أميراً؛ وخرجوا من القاهرة في ثالث عشر شوال، ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية.
وفي صبيحة يوم خروج العسكر، ورد الخبر على السلطان بأن الأمير محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري حارب يلبغا المجنون، وأنه قبض على أمير علي دواداره، وعلى نائب الوجه البحري، وعلى الأمير إياس الكمشبغاوي الخاصكي، وعلى جماعة من أصحابه، وأن يلبغا المجنون فر بعد أن انهزم ونزل إلى البحر بفرسه فغرق، وأنه أخرج من النيل ميتاً، فوجدوه قد أكل السمك لحم وجهه، فسر السلطان والأمراء بذلك، وخرج البريد في الوقت بعود الأمراء المجردين إلى القاهرة.
ثم في ثامن عشره خرج أمير حاج المحمل بيسق الشيخي أمير آخور الثاني بالمحمل، وكان تكلم الناس بعدم سفر الحاج في هذه السنة ولم يكن لذلك أصل. ثم ابتدأت الفتنة بين الأمير يشبك الشعباني الدوادار وبين الأمير سودون من علي بك المعروف بطاز الأمير آخور الكبير؛ ووقع بينهما أمور.
فلما كان يوم ثامن عشرين شوال المذكور منع جميع مباشري الدولة بديار مصر من النزول إلى بيت الأمير يشبك الدوادار؛ وذلك أن المباشرين بأجمعهم الكبير منهم والصغير كانوا ينزلون في خدمة يشبك منذ قدم السلطان من دمشق، فعظم ذلك على سودون طاز، وتفاوض معه في مجلس السلطان في كفه عن ذلك، حتى أذعن يشبك، فمنعوا؛ ثم نزلوا إليه على عادتهم، وصاروا جميعاً يجلسون عنده من غير أن يقفوا، وكانوا من قبل يقفون على أقدامهم.

(3/391)


ثم في ثاني ذي القعدة ورد الخبر على السلطان من حلب بواقعة الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب مع السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد والعراق. وخبره أن القان غياث الدين أحمد بن أويس المذكور لما ملك بغداد بعد حضوره إلى الديار المصرية حسب ما تقدم ذكره في ترجمة الملك الظاهر برقوق الثانية، فأخذ السلطان أحمد المذكور يسير مع أمرائه ورعيته سيرة سيئة، فركبوا عليه وقاتلوه، وكاتبوا صاحب شيراز في القدوم عليهم لأخذ بغداد. وخرج ابن أويس منهزماً إلى الأمير قرايوسف يستنجده، فركب معه قرايوسف وسار إلى بغداد، فخرج إليهما أهل بغداد، وقاتلوهما وكسروهما بعد حروب طويلة فانهزما إلى شاطىء الفرات، وبعثا يسألان الأمير دمرداش نائب حلب في نزولهما ببلاد الشام؛ ففي الحال استدعى دمرداش دقماق نائب حماة بعساكره إلى حلب فقدم عليه، وخرجا معاً في عسكر كبير وكبسا ابن أويس وقرايوسف، وهما في نحو سبعة آلاف فارس، فاقتتلا قتالاً شديداً في يوم الجمعة رابع عشرين شوال، قتل فيه الأمير جانبك اليحيائي أتابك حلب، وأسر دقماق المحمدي نائب حماة، وانهزم دمرداش المحمدي نائب حلب، وفر فيمن بقي من عسكره إلى حلب، ثم لحقه دقماق بعد أن فدى نفسه بمائة ألف درهم وحضر الوقعة الأمير سودون من زادة المتوجه بالبشارة إلى البلاد الشامية بسلامة السلطان، وقدم مع ذلك كتب ابن أويس وقرايوسف على السلطان تتضمن: " إنا لم نجىء محاربين، وإنما جئنا مستجيرين مستنجيدين بسلطان مصر، على عوائد فضل أبيه الملك الظاهر - رحمه الله - فحاربنا هؤلاء بغتة، فدافعنا عن أنفسنا وإلا كنا هلكنا، فلم يلتفت أهل الدولة إلى كتبهما، وكتبوا إلى نائب الشام بمسيره بعساكر الشام وقتال بن أويس وقرايوسف والقبض عليهما وإرسالهما إلى مصر.
هذا وخوند شيرين والدة الملك الناصر فرج مستمرة السعي في الإفراج عن الوالد من سجنه بقلعة دمشق، إلى أن أجاب الأمراء إلى ذلك، وكتب بالإفراج عنه وعن الأمير آقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب في يوم عرفة من محبسهما بقلعة دمشق، وحملا إلى القدس بطالين بها.
وبينما القوم في انتظار ما يرد عليهم من أمر السلطان أحمد بن أويس وقرايوسف، قدم عليهم الخبر من حلب بنزول تيمورلنك على مدينة سيواس وأنه حارب سليمان بن أبي يزيد بن عثمان، فانهزم سليمان المذكور إلى أبيه بمدينة برصا، ومعه قرايوسف، وأخذ تيمور سيواس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة.
ثم وصلت بعد قليل رسل ابن عثمان إلى الديار المصرية وكتابه يتضمن اجتماع الكلمة، وأن يكون مع السلطان عوناً على قتال هذا الطاغية تيمورلنك، ليستريح الإسلام والمسلمون منه، وأخذ يتخضع ويلح في كتابه على اجتماع الكلمة، فلم يلتفت أحد إلى كلامه، وقال أمراء مصر يوم ذاك: " الآن صار صاحبنا وعندما مات أستاذنا الملك الظاهر برقوق مشى على بلادنا، وأخذ ملطية من عملنا، فليس هو لنا بصاحب: يقاتل هو عن بلاده، ونحن نقاتل عن بلادنا ورعيتنا " وكتب له عن السلطان بمعنى هذا اللفظ. وكان ما قاله أبو يزيد بن عثمان من أكبر المصالح، فإنه حدثني فيما بعد الأمير أسنباي الظاهري الزردكاش، وكان أسره تيمور وحظي عنده وجعله زردكاشه، قال: قال لي تيمورلنك ما معناه أنه لقي في عمره عساكر كثيرة وحاربها، لم ينظر فيها مثل عسكرين: عسكر مصر وعسكر ابن عثمان المذكور. غير أن عسكر مصر كان عسكراً عظيماً ليس له من يقوم بتدبيره لصغر سن الملك الناصر فرج، وعدم معرفة من كان حوله من الأمراء بالحروب، وعسكر ابن عثمان المذكور، غير أنه كان أبو يزيد صاحب رأي وتدبير وإقدام، لكنه لم يكن من العساكر من يقوم بنصرته.

(3/392)


قلت: ولهذا قلت إن المصلحة كانت تقتضي الصلح مع سليمان بن أبي يزيد ابن عثمان المذكور فإنه كان يصير للعساكر المصرية من يدبرها، ويصير لابن عثمان المذكور عساكر مصر مع عساكره عوناً، فكان تيمور لا يقوى على مدافعتهم، فإن كلاً من العسكرين كان يقوى على دفعه لولا ما ذكرناه، فما شاء الله كان. وبعد أن كتب لابن عثمان بذلك لم يتأهب أحد من المصريين لقتال تيمور، ولا التفت إلى ذلك، بل كان جل قصد كل أحد منهم ما يوصله إلى سلطنة مصر وإبعاد غيره عنها، ويدع الدنيا تنقلب ظهراً لبطن؛ فإنه مع ورود هذا الخبر المزعج بلغ السلطان والأمراء أن الأمير قاني باي العلائي الظاهري أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة يريد إثارة فتنة، فطلبه السلطان وأمره بلبس التشريف بنيابة غزة، فامتنع من لبسه، فأمر السلطان به فقبض عليه وسلم للأمير آقباي الحاجب، فأخذه ونزل إلى داره وأقام عنده إلى آخر النهار؛ فاجتمع عليه طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه من آقباي الحاجب غصباً، فخاف آقباي وطلع به إلى القلعة، فطلب السلطان الأمراء وتشاوروا في أمره، فاتفقوا على إبقائه في إمرته ووظيفته.
ثم في خامس عشرين المحرم من سنة ثلاث وثمانمائة ورد البريد على السلطان من حلب بأخذ تيمور ملطية، ثم وصل من الغد البريد أيضاً بوصول أوائل عسكر تيمورلنك إلى مدينة عينتاب، وفي الكتاب: أدركوا المسلمين وإلا هلكوا. فاستدعى السلطان بعد يومين الخليفة والقضاة والأمراء وأعيان الدولة، وأعلموا أن تيمورلنك وصلت مقدمته إلى مرعش وعينتاب وكان القصد بهذا الجمع أخذ مال التجار إعانة على النفقة في العساكر، فقال القضاة: " أنتم أصحاب الأمر والنهي، وليس لكم فيه معارض وإن كان القصد الفتوى في ذلك فلا يجوز أخذ مال أحد يخاف على العساكر من الدعاء " فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف من البلاد، نقطعها للأجناد البطالين، فإن الأجناد قلت لكثرة الأوقاف، فقال القضاة: وما قدر ذلك؛ ومتى اعتمدتم على البطالين في الحرب خيف أن يؤخذ الإسلام. وطال الكلام في ذلك حتى استقر الرأي على إرسال الأمير أسنبغا الدوادار لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تيمورلنك. وسار أسنبغا في خامس صفر من سنة ثلاث المذكورة على البريد، ووقع التخذيل والتقاعد لاختلاف الكلمة وكثرة الآراء.
هذا وأهل البلاد الشامية في أمر لا يعلمه إلا الله تعالى، مما داخلهم من الرعب والخوف وقصد كل واحد أن يرحل من بلده، فمنعه من ذلك حاكم بلده، ووعده بحضور العساكر المصرية والدفع عنهم.
ثم بعد أيام قدم البريد بكتاب نائب حلب الأمير دمرداش المحمدي، وصحبته أيضاً كتاب أسنبغا الدوادار بأن تيمور نزل على قلعة بهسنا، بعد ما ملك مدينتها، وأنه مستمر على حصارها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب ووصل هذا الخبر إلى مصر في يوم رابع عشرين صفر المذكور، فوقع الشروع عند ذلك في حركة سفر السلطان ثم علق جاليش السفر في يوم ثالث شهر ربيع الأول.
وكان من خبر أسنبغا الدوادار أنه وصل إلى دمشق في سابع صفر، فقرأ كتاب السلطان في الجامع الأموي، وهو يتضمن تجهيز العساكر الشامية وخروجهم لقتال تيمور وقدم في تاسعه رسول تيمور إلى الشام وعلى يده مطالعات تيمور للمشايخ والقضاة والأمراء، بأنه قدم في عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة، ثم عاد إلى الهند، فبلغه موت الملك الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج، ثم قصد الروم لما بلغه قلة أدب هذا الصبي سليمان بن أبي يزيد بن عثمان أن يعرك أذنه، فتوجه إليه وفعل بسيواس وغيرها من بلاد الروم ما بلغكم، ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه في الخطبة، ثم يرجع، وطلب في الكتاب أن يرسل إليه أطلمش المقبوض عليه من أمرائه قبل تاريخه، في دولة الملك الظاهر برقوق، " وإن لم ترسلوه يصير دماء المسلمين في ذمتكم " ، فلم يلتفت سودون نائب الشام إلى كلامه، وأمر بالرسول فوسط.

(3/393)


وتوجه أسنبغا إلى حلب فوجد الأخبار صحيحة؛ فكتب بما رآه وعلمه إلى الديار المصرية صحبة كتاب نائب حلب، فوصلت الكتب المذكورة إلى مصر في ثالث شهر ربيع الأول. وكان ما تضمنته الكتب أن تيمور نزل على بزاعة ظاهر حلب، وقد اجتمع بحلب سائر نواب البلاد الشامية، واستحث في خروج السلطان بالعساكر من مصر إلى البلاد الشامية، وأن تيمور لما نزل على بزاعة خرج الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس هو الملك المؤيد وبرز إلى جاليش تيمورلنك في سبعمائة فارس، والتتار في نحو ثلاثة آلاف فارس، وترامى الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا ساعة، وأخذ شيخ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه، فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب بحضرة من اجتمع بحلب من النواب، وكان الذي اجتمع بها: الأمير سودون نائب الشام بعساكر دمشق وأجنادها وعشيرها، ونائب طرابلس شيخ المحمودي المذكور بعساكر طرابلس وأجنادها ورجالتها، ونائب حماة دقماق المحمدي بعساكر حماة وعربانها، ونائب صفد ألطنبغا العثماني بعساكر صفد وعشيرها، ونائب غزة عمر بن الطحان بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب عساكر عظيمة، غير أن الكلمة متفرقة، والعزائم محلولة لعدم وجود السلطان انتهى.
وكان تيمور لما نزل على عينتاب أرسل رسوله إلى الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب يعده باستمراره على نيابة حلب، ويأمره بمسك سودون نائب الشام، فإنه كان قتل رسوله الذي وجهه إلى دمشق قبل تاريخه فأخذ دمرداش الرسول وأحضره إلى النواب، فأنكر الرسول مسك سودون نائب الشام، وقال لدمرداش: " إن الأمير - يعني تيمور - لم يأت البلاد بمكاتباتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها فحنق منه دمرداش لما سمع منه هذا الكلام، وقام إليه وضربه، ثم أمر به، فضربت رقبته. ويقال إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك وعدائه ومكره ليفرق بذلك بين العساكر، فعلم الأمراء ذلك، ولم يقع ما قصده - ومن الحلبيين جماعة يقولون إلى الآن إنه كاتب تيمور وتقاعد عن القتال. والله أعلم بصحة ذلك.
ثم اجتمع الأمراء والنواب على قتال تيمور، وتهيأ كل منهم للقائه بعد أن يئسوا من مجيء السلطان وعساكره، لعلمهم بعدم رأي مدبري مملكة مصر من الأمراء، ولصغر سن السلطان، وقد فات الأمر، وهم في قلة إلى الغاية بالنسبة إلى عساكر تيمور وجنوده وجموعه؛ وكان الأليق خروج السلطان من مصر بعساكره ووصوله إلى حلب قبل رحيل تيمور من سيواس، كما فعل الملك الظاهر برقوق - رحمه الله - فيما تقدم ذكره.

(3/394)


وبينما النواب في إصلاح شأنهم للقتال، نزل تيمور بعساكره على قرية حيلان، خارج حلب في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الأول وأحاط بمدينة حلب وأصبح من الغد في يوم الجمعة، زحف على مدينة حلب وأحاط بسورها، فكانت بين أهل حلب وبينه في هذين اليومين حروب كثيرة، ومناوشات بالنشاب والنفوط والمكاحل. وركب أهل حلب أسوار المدينة وقاتلوه أشد قتال فلما أشرقت الشمس يوم السبت حادي عشره خرج نواب الشام بجميع عساكرها وعامة أهل حلب إلى ظاهر مدينة حلب، وعبأوا الأطلاب والعساكر لقتال تيمور، ووقف سيدي سودون نائب دمشق بمماليكه، وعساكر دمشق في الميمنة، ووقف دمرداش نائب حلب بمماليكه، وعساكر حلب في الميسرة، ووقف بقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم أهل حلب المشاة، فكانت هذه التعبية من أيشم التعابي، هذا مع ادعاء دمرداش بالمعرفة لتعبية العساكر. وحال وقوف الجميع في منازلهم، زحف تيمور بجيوش قد سدت الفضاء، وصدم عساكر حلب صدمة هائلة؛ فالتقاه النواب وثبتوا لصدمته أولاً، ثم انكسرت الميسرة، وثبت سودون نائب الشام في الميمنة، وأردفه شيخ نائب طرابلس وقاتلاه قتالاً عظيماً وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو الأتابك إينال اليوسفي وولده يشبك بن أزدمر في عدة من الفرسان، وقد بذلوا نفوسهم في سبيل الله، وقاتلوا قتالاً شديداً، وأبلوا بلاء عظيماً، وظهر عن أزدمر وولده يشبك من الشجاعة والإقدام ما لعله يذكر إلى يوم القيامة. ولم يزل أزدمر يقتحم القوم يكر فيهم إلى أن قتل وفقد خبره، فإنه لم يقتل إلا وهو في قلب العدو، وسقط ولده يشبك بين القتلى وقد أثخنت جراحاته، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف وغيره، سوى ما في بدنه. ثم أخذ يشبك، وحمل إلى بين يدي تيمور، فلما رأى تيمور ما به من الجراح تعجب من إقدامه وثباته غاية العجب، وأمر بمداواته، فيما قيل ولم تمض غير ساعة حتى ولت العساكر الشامية منهزمة يريدون مدينة حلب، وركب أصحاب تيمور أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من البشر ومن أهل حلب وغيرها من المشاة ما لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا منها لقتال تيمور، حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك في دخولهم إلى أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضاً، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها. وقصد نواب المماليك الشامية قلعة حلب وطلعوا إليها، فدخلها معهم خلائق من الحلبيين وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إليها سائر أموال الناس بحلب.
هذا وقد اقتحم عساكر تيمور مدينة حلب في الحال، وأشعلوا فيها النيران وأخذوا في الأسر والنهب والقتل، فهرب سائر نساء البلد والأطفال إلى جامع حلب وبقية المساجد، فمال أصحاب تيمور عليهن، وربطوهن بالحبال أسرى ثم وضعوا السيف في الأطفال، فقتلوهم بأسرهم وشرعوا في تلك الأفعال القبيحة على عادتهم، وصارت الأبكار تفتض من غير تستر، والمخدرات يفسق فيهن من غير احتشام، بل يأخذ التتري الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع بحضرة الجم الغفير من أصحابه ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها وزوجها وولدها ولا يقدر أن يدفع عنها لقلة مقدرته، ولشغله بنفسه بما هو فيه من العقوبة والعذاب، ثم ينزل عنها الواحد فيقوم لها آخر وهي مكشوفة العورة.
ثم بذلوا السيف في عامة حلب وأجنادها حتى امتلأت الجوامع والطرقات بالقتلى، وجافت حلب، واستمر هذا من ضحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول. هذا والقلعة في أشد ما يكون من الحصار والقتال، وقد نقبها عسكر تيمور من عدة أماكن، وردم خندقها ولم يبق إلا أن تؤخذ.
فتشاور النواب والأعيان الذين بالقلعة، فأجمعوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا لتيمور بذلك، فطلب تيمور نزول بعض النواب إليه فنزل إليه دمرداش نائب حلب، فخلع عليه، ودفع إليه أماناً وخلعاً إلى النواب، وأرسل معه عدة وافرة من أصحابه إلى قلعة حلب، فطلعوا إليها وأخرجوا النواب منها بمن معهم من الأمراء والأعيان، وجعلوا كل اثنين في قيد، وأحضروا الجميع إلى تيمور وأوقفوا بين يديه فنظر إليهم طويلاً وهم وقوف بين يديه ورئيسهم سودون نائب الشام. ثم أخذ يقرعهم ويوبخهم ويلوم سودون نائب الشام في قتله لرسوله، ويكثر له من الوعيد. ثم دفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به.

(3/395)


ثم سيقت إليه نساء حلب سبايا وأحضرت إليه الأموال والجواهر والآلات الفاخرة، ففرقها على أمرائه وأخصائه. واستمر النهب والسبي والقتل بحلب في كل يوم، مع قطع الأشجار وهدم البيوت وإحراق المساجد وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشاً، لا يجد الشخص مكاناً يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمة قتيل. وعمل تيمور من رؤوس المسلمين منابر عدة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعاً، حسب ما فيها من رؤوس بني آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس، ولما بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها.
ثم رحل تيمور من حلب بعد أن أقام بها شهراً، وتركها خاوية على عروشها، خالية من سكانها وأنيسها، قد خربت وتعطلت من الأذان والصلوات، وأصبحت خراباً يباباً مظلمة بالحريق موحشة قفراً، لا يأويها إلا البوم والرخم. وسار تيمور قاصداً جهة دمشق، فمر بمدينة حماة، وكان أخذها ابنه ميران شاه.
وكان من خبرها أن ميران شاه بن تيمور نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الأول المذكور، وأحاط بها بعساكره، بعد أن نهب خارج مدينة حماة، وسبى النساء والأطفال، وأسر الرجال، واستمرت أيدي أصحابه يفعلون في النساء والأبكار تلك الأفعال القبيحة، وخربوا جميع ما هو خارج عن سور المدينة. هذا وقد استعد أهل حماة للقتال، وركب الناس سور المدينة، وامتنعوا من تسليم المدينة، وباتوا على ذلك فلما أصبحوا خادعهم ابن تيمور، ففتحوا له باباً من أبواب المدينة، ودخل ابن تيمور المذكور مدينة حماة ونادى بالأمان؛ فقدم الناس عليه، وقدموا له أنواع المطاعم، فقبلها منهم، وعزم أن يقيم رجلاً من أصحابه عليها، فقيل له: إن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيمه وبات به.
ثم رحل يوم الخميس عنها ووعد الناس بخير؛ ومع ذلك فإن قلعة حماة لم يتسلمها، بل كانت امتنعت عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة وقتلوا من أصحاب ابن تيمور رجلين كان أقرهما بالمدينة، فلما بلغ ذلك ابن تيمور رجع إليها وآقتحم البلد، وأشعل النار بها، وأخذ أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون حتى صارت كمدينة حلب غير أنه كان رفق بأهل حلب، فإنه كان سأل قضاة حلب لما صاروا في أسره عن قتاله، ومن الشهيد. فأجاب محب الدين محمد بن محمد بن الشحنة الحنفي بأن قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد، فأعجبه ذلك، وحادثهم، فطلبوا منه أن يعفو عن أهل حلب، ولا يقتل أحداً؛ فأمنهم جميعاً وحلف لهم، فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.
وأما أهل دمشق، فإنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة، والاستعداد لقتال العدو المخذول، فأخذوا في ذلك؛ فقدم عليهم المنهزمون من حماة، فعظم خوف أهلها، وهموا بالجلاء، فمنعوا من ذلك، ونودي: من سافر نهب، فعاد إليها من كان خرج منها وحصنت دمشق، ونصبت المجانيق على قلعة دمشق، ونصبت المكاحل على أسوار المدينة، واستعدوا للقتال استعداداً جيداً إلى الغاية.
ثم وصلت رسل تيمور إلى نائب الغيبة بدمشق ليتسلموا منه دمشق، فهم نائب الغيبة بالفرار، فرده العامة رداً قبيحا وصاح الناس وأجمعوا على الرحيل عنها، واستغاث النساء والصبيان، وخرجت النساء حاسرات لا يعرفن أين يذهبن، حتى نادى نائب الغيبة بالاستعداد.ٍٍٍ وقدم الخبر في أثناء ذلك بمجيء السلطان إلى البلاد الشامية، ففتر عزم الناس عن الخروج من دمشق ما لم يحضر السلطان.
وأما أمراء الديار المصرية فإنه لما كان ثامن عشر ضهر ربيع الأول، وهو بعد أخذ تيمور لمدينة حلب بسبعة أيام، فرقت الجماكي على المماليك السلطانية بسبب السفر.
ثم في عشرينه نودي على أجناد الحلقة بالقاهرة أن يكونوا في يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الشعباني الدوادار للعرض عليه.
ثم في خامس عشرينه ورد عليهم الخبر بأخذ تيمور مدينة حلب، وأنه يحاصر قلعتها، فكذبوا ذلك؛ وأمسك المخبر وحبس حتى يعاقب بعد ذلك على افترائه ووقع الشروع في النفقة، فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم.
ثم خرج الأمير سودون من زادة والأمير إينال حطب على الهجن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه لكشف هذا الخبر.

(3/396)


ثم ركب الشيخ سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة والأمير آقباي الحاجب، ونودي بين أيديهم: الجهاد في سبيل الله تعالى لعدوكم الأكبر تيمورلنك، فإنه أخذ البلاد ووصل إلى حلب، وقتل الأطفال على صدور الأمهات، وأخرب الدور والجوامع والمساجد، وجعلها إسطبلات للمواشي؛ وإنه قاصدكم، يخرب بلادكم، ويقتل رجالكم؛ فاضطربت القاهرة لذلك، واشتد جزع الناس، وكثر بكاؤهم وصراخهم، وانطلقت الألسنة بالوقيعة في أعيان الدولة.
وأهل شهر ربيع الآخر، فلما كان ثالثه قدم الأمير أسنبغا الدوادار وأخبر بأخذ تيمور مدينة حلب وقلعتها بآتفاق دمرداش، وحكى ما نزل بأهل حلب من البلاء، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق يخفي بين الناس وبين الخروج من دمشق، فإن الأمر صعب، أو أن النائب لم يمكن أحداً من السير،. فخرج السلطان الملك الناصر من يومه من القاهرة ونزل بالريدانية بأمرائه وعساكره أو الخليفة، والقضاة، وتعين الأمير تمراز الناصري أمير مجلس في نيابة الغيبة بالديار المصرية وأقام بمصر من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة أخر، وأقام الأمير تمراز يعرض أجناد الحلقة، وفي تحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة للسفر.
ثم رسم باستقرار الأمير أرسطاي من خجا على رأس نوبة النوب كان في نيابة الإسكندرية بعد موت نائبها فرج الحلبي. وكان أرسطاي منذ أفرج عنه بطالاً بالإسكندرية، فوردت عليه الولاية وهو بها. وأخذ الأمير تمراز في عرض أجناد الحلقة، وتحصيل الخيول والجمال وطلب العربان من الوجه القبلي والبحري لقتال تيمور، كل ذلك والسلطان بالريدانية.
ثم خرج الجاليش في بكرة يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الآخر، وفيه من أكابر الأمراء مقدمي الألوف: الأتابك بيبرس، والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة الأمراء، والأمير بكتمر الركني أمير سلاح، وآقباي حاجب الحجاب، ويلبغا الناصري، وإينال باي بن قجماس، وعدة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات.
ثم رحل السلطان ببقية الأمراء والعساكر من الريدانية يريد جهة الشام لقتال تيمورلنك، وسار حتى نزل بغزة في يوم عشرين من الشهر، واستدعى بالوالد وآقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب كان من القدس، وأخلع على الوالد باستقراره في نيابة دمشق عوضاً عن سودون قريب الملك الظاهر برقوق بحكم أسره مع تيمور، وهذه ولاية الوالد على دمشق الأولى.
وخلع على الأمير آقبغا الجمالي الأطروش باستقراره في نيابة طرابلس عوضاً عن شيخ المحمودي بحكم أسره مع تيمور أيضاً، وعلى الأمير تمربغا المنجكي استقراره في نيابة صفد عوضاً عن ألطنبغا العثماني بحكم أسره، وعلى طولو من علي باشاه باستقراره في نيابة غزة عوضاً عن عمر بن الطحان، وعلى صدقة بن طويل باستقراره في نيابة القدس، وبعث الجميع إلى ممالكهم.

(3/397)


وأما الوالد فإنه قال للسلطان وللأمراء: عندي رأي أقوله، وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان، فقيل له: وما هو! فقال: الرأي أن السلطان لا يتحرك هو ولا عساكره من مدينة غزة، وأنا أتوجه إلى دمشق وأحرض أهلها على القتال، وأحصنها - وهي بلدة عظيمة لم تنكب من قديم الزمان، وبها ما يكفي أهلها من المؤونة سنين، وقد داخل أهلها أيضاً من الخوف ما لا مزيد عليه، فهم يقاتلون قتال الموت، وتيمور لا يقدر على أخذها مني بسرعة، وهو في عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق المكث بهم بمكان واحد مدة طويلة، فإما أنه يدع دمشق ويتوجه نحو السلطان إلى غزة، فيتوغل في البلاد ويصير بين عسكرين، وأظنه لا يفعل ذلك، وإما أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره بالبلاد الشامية، وقلة ما في طريقه من الميرة لخراب البلاد، فيركب السلطان بعساكره المصرية والشامية أفقية التمرية إلى الفرات، فيظفر منهم بالغرض وزيادة؛ فاستصوب ذلك جميع الناس - حتى تيمور عندما بلغه ذلك بعد أخذه دمشق - وما بقي إلا أن يرسم بذلك، تكلم بعض جهال الأمراء مع بعض في السر ممن عنده كمين من الوالد من واقعة أيتمش وتنم، وقال: أتقتلون رفقته وتسلمونه الشام! والله ما قصده إلا أن يتوجه إلى دمشق، ويتفق مع تيمور ويعود يقاتلنا، حتى يأخذ منا ثأر رفقته. وكان نوروز الحافظي بإزاء الوالد، فلما سمع ذلك استحيا أن يبديه للوالد، فأشار إليه بالسكات والكف عن ذلك. وانفض المجلس، وخرج الوالد من الخدمة وأصلح شأنه، وتوجه إلى دمشق، فوجد الأمير دمرداش نائب حلب قد هرب من تيمور وقدم إلى دمشق، وقد جفل أهل دمشق لما بلغهم قرب تيمور إلى دمشق، فأخذ الوالد في إصلاح أهل دمشق، فوجد أهلها في غاية الاستعداد، وعزمهم قتال تيمور إلى أن يفنوا جميعاً، فتأسف عند ذلك على عدم قبول السلطان لرأيه، ولم يسعه إلا السكات.
ثم رحل جاليش السلطان من غزة في رابع عشرين شهر ربيع الآخر، ثم رحل السلطان ببقية عسكره من غزة في سادس عشرينه، وسار الجميع حتى وافوا دمشق.
وكان دخول السلطان دمشق في يوم الخميس سادس جمادى الأولى؛ وكان لدخوله يوم مهول من كثرة صراخ الناس وبكائهم والابتهال إلى الله بنصرته. وطلع السلطان إلى قلعة دمشق وأقام بها إلى يوم السبت ثامنه، فنزل من قلعة دمشق وخرج بعساكره إلى مخيمه عند قبة يلبغا ظاهر دمشق، وتهيأ للقاء تيمور هو بعساكره، وقد قصرت المماليك الظاهرية أرماحهم حتى يتمكنوا من طعن التمرية أولاً بأول لازدرائهم عساكر تيمور.
فلما كان وقت الظهر من اليوم المذكور وصل جاليش تيمور من جهة جبل الثلج في نحو الألف فارس، فبرز إليهم مائة فارس من عسكر السلطان وصدموهم صدمة واحدة، بددوا شملهم وكسروهم أقبح كسرة، وقتلوا منهم جماعة كبيرة وعادوا.
ثم حضر إلى طاعة السلطان جماعة من التمرية وأخبروا بنزول تيمور على البقاع العزيزي " فلتكونوا على حذر، فإن تيمور كثير الحيل والمكر " فاحترز القوم منه غاية الاحتراز.
ثم قدم على السلطان خمسة أمراء من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة بطرابلس يتضمن أن الأمير أحمد بن رمضان أمير التركمان هو وابن صاحب الباز وأولاد شهري آتفقوا وساروا إلى حلب وأخذوها من التمرية، وقتلوا من أصحاب تيمور زيادة على ثلاثة آلاف فارس، وأن تيمور بعث عسكراً إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن آخرهم بالحجارة لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر من عسكر تيمور خمسة نفر، وأخبروا بأن نصف عسكر تيمور على نية المسير إلى طاعة السلطان - وكان ذلك من مكايد تيمور - ثم قال: وإن صاحب قبرص وصاحب الماغوصة وغيرهم وردت كتبهم بآنتظار الإذن لهم في تجهيز المراكب في البحر لقتال تيمور معاونة للسلطان، فلم يلتفت أحد لهذا الكتاب، وداموا على ما هم فيه من اختلاف الكلمة.

(3/398)


ثم في يوم السبت نزل تيمور بعساكره على قطنا، فملأت عساكره الأرض كثرة وركب طائفة منهم لكشف الخبر، فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيأوا للقتال. وصفت العساكر السلطانية، فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كل من العسكرين ساعة، فكانت بينهم وقعة آنكسر فيها ميسرة السلطان، وآنهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجرح جماعة. وحمل تيمور بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ فيها دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه.
ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضاً يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب فأشار الوالد ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك لما يعرفوا من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال.
ثم أرسل تيمور رسولاً آخر في طلب الصلح، وكرر القول ثانياً، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صحة مقالته، وأن ذلك على حقيقته، فأبى الأمراء ذلك،هذا والقتال مستمر بين الفريقين في كل يوم.
فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة آختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة، منهم الأمير سودون الطيار، وقاني باي العلائي رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكية يشبك العثماني وقمش الحافظي وبرسبغا الدوادار وطرباي في جماعة أخر، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات والتحكم في الدولة، وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن، وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسبب من اختفى من الأمراء وغيرهم.
هذا وتيمور في غاية الاجتهاد في أخذ دمشق وفي عمل الحيلة في ذلك. ثم أعلم بما الأمراء فيه، فقوي أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعد لذلك.
ثم أشيع بدمشق أن الأمراء الذين اختفوا توجهوا جميعاً إلى مصر ليسلطنوا الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد البرانية، فعظم ذلك على مدبري المملكة لعدم رأيهم، وكان ذلك عندهم أهم من أمر تيمور، واتفقوا فيما بينهم على أخذ السلطان الملك الناصر جريدة، وعوده إلى الديار المصرية في الليل، ولم يعلموا بذلك إلا جماعة يسيرة ولم يكن أمر لاجين يستحق ذلك، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفي السلطان أمرهم، " ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " فلما كان آخر ليلة الجمعة حادي عشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به من على عقبة عمر يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنماً بلا راع وجدوا في السير ليلاً ونهاراً حتى وصلوا إلى مدينة صفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم، وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة وأمرائها، وسار الجميع حتى أدركوا الأمراء الذين ساروا إلى مصر - عليهم من الله ما يستحقوه - بمدينة غزة؛ فكلموهم فيما فعلوه، فاعتذروا بعذر غير مقبول في الدنيا والآخرة؛ فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف يريدون اللحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير، وسلبوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
أخبرني غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا في الحال، غير أننا لم يعوقنا عن اللحاق به إلا كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق مما رمتها المماليك السلطانية ليخص ذلك عن خيولهم، فمن كان فرسه ناهضاً خرج، وإلا لحقه أصحاب تيمور وأسروه؛ فمن أسروه قاضي القضاة صدر الدين المناوي، ومات في الأسر حسبما يأتي ذكره في الوفيات. وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانية وغيرهم إلى القاهرة في أسوأ حال من المشي والعري والجوع، فرسم السلطان لكل من المماليك السلطانية ألف درهم وجامكية شهرين.
وأما الأمراء فإنهم أيضاً دخلوا إلى مصر وليس مع كل أمير سوى مملوك أو مملوكين، وقد تركوا أموالهم وخيولهم وأطلابهم وسائر ما معهم بدمشق، فإنهم خرجوا من دمشق بغتة بغير مواعدة لما بلغهم توجه السلطان من دمشق، وأخذ كل واحد ينجو بنفسه.

(3/399)


وأما العساكر الذين خلفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان آجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلاً من تيمور.
ولما أصبحوا يوم الجمعة، وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب، غلقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادوا بالجهاد، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمور بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال، وردوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان آقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم في زيادة فأعيا تيمور أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ في مخادعتهم، وعمل الحيلة في أخذ دمشق منهم.
وبينما أهل دمشق في أشد ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم، قدم عليهم رجلان من أصحاب تيمور من تحت السور وصاحا من بعد: الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى يحدثه الأمير في ذلك.
قلت: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزة في نيابة دمشق، وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوة لدفع تيمور عن دمشق، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرزق، وهي في الغاية من التحصين، وأنه يتوجه إليها ويقاتل بها تيمور، فلم يسمع له أحد في ذلك؛ فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدة بأسهم، وهم بغير نائب ولا مدبر لأمرهم، فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم، لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير. انتهى.
ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمور في الصلح وقع آختيارهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، فأرخي من سور دمشق إلى الأرض، وتوجه إلى تيمور وآجتمع به وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمور بتنميق كلامه، وتلطف معه في القول، وترفق له في الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عني وعن أولادي، ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتها وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسري؛ وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا، ولم يبق لي الآن غرض إلا العود، ولكن لا بد من أخذ عادتي من التقدمة من الطقزات. وكانت هذه عادته إذا أخذ مدينة صلحاً يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة؛ يسمون ذلك طقزات؛ والطقز باللغة التركية: تسعة، وهذه عادة ملوك التتار إلى يومنا هذا.

(3/400)


فلما صار ابن مفلح بدمشق شرع يخذل الناس عن القتال ويثني على تيمور ودينه وحسن اعتقاده ثناء عظيماً، ويكف أهل دمشق عن قتاله فمال معه طائفة من الناس، وخالفه طائفة أخرى وأبوا إلا قتاله، وباتوا ليلة السبت على ذلك وأصبحوا نهار السبت وقد غلب رأي ابن مفلح على من خالفه، وعزم على إتمام الصلح، ونادى في الناس: إنه من خالف ذلك قتل وهدر دمه؛ فكف الناس عن القتال. وفي الحال قدم رسول تيمور إلى مدينة دمشق في طلب الطقزات المذكورة، فبادر ابن مفلح، وآستدعى من القضاة والفقهاء والأعيان والتجار حمل ذلك كل أحد بحسب حاله؛ فشرعوا في ذلك حتى كمل، وساروا به إلى باب النصر ليخرجوا به إلى تيمور، فمنعهم نائب قلعة دمشق من ذلك، وهددهم بحريق المدينة عليهم إن فعلوا ذلك، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا له: " أنت احكم على قلعتك، ونحن نحكم على بلدنا " ، وتركوا باب النصر وتوجهوا، وأخرجوا الطقزات المذكورة من السور، وتدلى ابن مفلح من السور أيضاً ومعه كثير من أعيان دمشق وغيرهم وساروا إلى مخيم تيمور، وباتوا به ليلة الأحد وعادوا بكرة الأحد، وقد استقر تيمور بجماعة منهم في عدة وظائف ما بين قضاة القضاة، والوزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، معهم فرمان من تيمور لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم وأهليهم خاصة؛ فقرىء الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق وفتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط، وقدم أميرمن أمراء تيمور، جلس فيه ليحفظ البلد ممن يعبر إليها من عساكر تيمور فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به، وأكثر ابن مفلح ومن كان توجه معه من أعيان دمشق الثناء على تيمور، وبث محاسنه وفضائله، ودعا العامة لطاعته وموالاته، وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر لتيمور عليهم، وهو ألف ألف دينار، وفرض ذلك على الناس كلهم، فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم. فلما كمل المال حمله ابن مفلح إلى تيمور ووضعه بين يديه فلما عاينه غضب غضباً شديداً، ولم يرض به، وأمر ابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فأخرجوا من وجهه ووكل بهم جماعة حتى التزموا بحمل ألف تومان - والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب إلا أن سعر الذهب عندهم يختلف وعلى كل حال فيكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار - فالتزموا بها وعادوا إلى البلد، وفرضوها ثانياً على الناس كلها عن أجرة أملاكهم ثلاثة أشهر وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى حر وعبد بعشرة دراهم وألزم مباشر كل وقف بحمل مال له جرم، فنزل بالناس بآستخراج هذا منهم ثانياً بلاء عظيم وعوقب كثير منهم بالضرب، فغلت الأسعار، وعز وجود الأقوات، وبلغ المد القمح - وهو أربعة أقداح - إلى أربعين درهماً فضة، وتعطلت صلاة الجمعة من دمشق فلم تقم بها جمعة إلا مرتين حتى دعي بها على منابر دمشق للسلطان محمود ولولي عهده ابن الأمير تيمورلنك وكان السلطان محمود مع تيمور آلة، كون عادتهم لا يتسلطن عليهم إلا من يكون من ذرية الملوك. انتهى.
ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمور إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قبل تيمور.
ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمور بدمشق كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمور تحاصره أشد حصار، حتى سلمها بعد تسعة وعشرين يوماً وقد رمي عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر. يكفيك أن التمرية من عظم ما أعياهم أمر قلعة دمشق بنوا تجاه القلعة قلعة من خشب؛ فعند فراغهم من بنائها وأرادوا طلوعها ليقاتلوا من أعلاها من هو بالقلعة، رمى أهل قلعة دمشق نفطاً فأحرقوها عن آخرها، فأنشأوا قلعة ثانية أعظم من الأولى وطلعوا عليها وقاتلوا أهل القلعة.
هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلا نفر قليل دون الأربعين نفراً، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النجمة، وطلبوا الأمان، وسلموها بالأمان.
قلت: لا شلت يدهم! هؤلاء هم الرجال الشجعان. رحمهم الله تعالى.
ولما تكامل حصول المال الذي هو ألف تومان، أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور؛ فقال تيمور لابن مفلح وأصحابه: " هذا المال بحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف ألف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر لي أنكم عجزتم " .

(3/401)


وكان تيمور لما اتفق أولاً مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور فخرج إليه آبن مفلح بأموال أهل مصر جميعها فلما صارت كلها إليه وعلم أنه آستولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من دمشق، فسارعوا أيضاً إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح جليلها وحقيرها، فتتبعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبق بها من السلاح شيء فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا فلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حل بأهل دمشق من البلاء مالا يوصف وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوساً، وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم، كلما تنفس دخل في أنفه حتى تكاد نفسه تزهق؛ فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعاً، فكان المعاقب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه، ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته أو بنته وهي توطأ، وولده وهو يلاط به، فيصرخ هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط، وكل ذلك من غير تستر في النهار بحضرة الملأ من الناس. ورأى أهل دمشق أنواعاً من العذاب لم يسمع بمثلها؛ منها أنهم كانوا يأخذون الرجل فتشد رأسه بحبل ويلوونه حتى يغوص في رأسه ومنهم من كان يضع الحبل بكتفي الرجل ويلويه بعصاه حتى تنخلع الكتفان ومنهم من كان يربط إبهام يدي المعذب من وراء ظهره ثم يلقيه على ظهره ويفر في منخريه الرماد مسحوقاً، فيقر على ما عنده شيئاً بعد شيء، حتى إذا فرغ ما عنده لا يصدقه صاحبه على ذلك، فلا يزال يكرر عليه العذاب حتى يموت، ويعاقب ميتاً مخافة أن يتماوت. ومنهم من كان يعلق المعذب بإبهام يديه في سقف الدار ويشعل النار تحته، ويطول تعليقه، فربما يسقط فيها، فيسحب من النار ويلقوه على الأرض حتى يفيق، ثم يعلقه ثانياً.
وآستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة، فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى.
فلما علمت أمراء تيمور أنه لم يبق بالمدينة شيء خرجوا إلى تيمور، فسألهم:هل بقي لكم تعلق في دمشق؟ فقالوا: لا؛فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الحور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال.
ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوم عاصف الريح، فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة.
وكان تيمور - لعنه الله - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعد ما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد آحترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية، ولم يبق بها دابة تدب، إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع.
وأما السلطان الملك الناصر فرج فإنه أقام بغزة ثلاثة أيام، وتوجه إلى الديار المصرية بعد ما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية فقدم آقبغا، إلى القاهرة في يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وأعلم الأمير تمراز نائب الغيبة بوصول السلطان إلى غزة، فآرتخت القاهرة، وكادت عقول الناس تزهق، وظن كل أحد أن السلطان قد انكسر من تيمور، وأن تيمور في أثره وأخذ كل أحد يبيع ما عنده ويستعد للهروب من مصر، وغلا أثمان ذوات الأربع حتى جاوز المثل أمثالاً.

(3/402)


فلما كان يوم الخميس خامس جمادى الآخرة المذكور قدم السلطان إلى قلعة الجبل ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونواب البلاد الشامية، ونحو ألف مملوك من المماليك السلطانية، وقيل نحو الخمسمائة.
ثم في يوم السبت سابع جمادى الآخرة المذكور أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية كانت موفرة في الديوان السلطاني، بعد استعفائه من نيابة دمشق، وعين السلطان لنيابة دمشق آقبغا الجمالي الأطروش، ورسم للوالد أن يجلس رأس ميسرة.
ثم أذن السلطان للأمير يلبغا السالمي الأستادار أن يتحدث في جميع ما يتعلق بالمملكة، وأن يجهز العسكر إلى دمشق لقتال تيمور؛ فشرع يلبغا السالمي المذكور في تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضي مصر فرائض من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان، وأخباز الأجناد، وبلاد الأوقاف عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم فضة وفرس.
ثم جبى من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما أجرة شهر، حتى إنه كان يقوم على الإنسان داره التي يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها، وأخذ من الرزق، وهي الأراضي التي يأخذ مغلها قوم على سبيل البر والصدقة، عن كل فدان عشرة دراهم، وكان يوم ذاك أجرة الفدان من ثلاثين درهماً إلى ما دونها. قلت: أخذ نصف خراجها بدورة دارها وأخذ من الفدان القصب أو القلقاس أو النيلة من القنطار مائة درهم، وهي نحو أربعة دنانير، وجبى من البساتين عن كل فدان مائة درهم.
ثم استدعى أمناء الحكم والتجار وطلب منهم المال على سبيل القرض، وصار يكبس الفنادق والحواصل في الليل، فمن وجده حاضراً فتح مخزنه وأخذ نصف ما يجده فيه من النقد، وهي الذهب والفضة والفلوس، وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود وهي الذهب والفضة والفلوس، وأخذ جميع ما وجد من حواصل الأوقاف ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم تستخرج مما تقدم ذكره، ثلاثة دراهم، ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيباً أخذ عشرة دراهم - قاله الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله - قال: فاشتد ما بالناس، وكثر دعاء الناس على السالمي.
قلت: وبالجملة فهم أحسن حالاً من أهل دمشق، وإن أخذ منهم نصف مالهم، وأيش يعمل السالمي؟ مسكين! وقد ندبه السلطان لإخراج عسكر ثان من الديار المصرية لقتال تيمور. انتهى.
ثم خلع السلطان على الأمير نوروز الحافظي وعلى الأمير يشبك الشعباني، واستقرا مشيري الدولة ومدبري أمورها.
ثم في ثالث عشره خلع على القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي قاضي العسكر بآستقراره قاضي قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي، وعلى القاضي جمال الدين عبد الله الأقفهسي بآستقراره قاضي قضاة المالكية بالديار المصرية عوضاً عن القاضي نور الدين علي بن الجلال بحكم وفاته.
وفيه قدم من الشام من المماليك المنقطعين ثلاثمائة مملوك بأسوأ حال: من المشي والعري والجوع.
ثم في حادي عشرينه حضر إلى القاهرة قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي من دمشق بأسوأ حال، وقدم أيضاً قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن البقاء الشافعيوحضر كتاب تيمورلنك للسلطان على يد بعض المماليك السلطانية يتضمن طلب أطلمش أطلندي، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من الأمراء والنواب وغيرهم، وقاضي القضاة صدر الدين المناوي الشافعي، ويرحل عن دمشق، فطلب أطلمش من البرج بالقلعة، وأطلق، وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير، وعين للسفر معه قطلوبغا العلائي، والأمير محمد بن سنقر.
ثم خرج إلى تيمور الأمير بيسق الشيخي الأمير آخور رسولاً من السلطان بالإفراج عن أطلمش وأشياء أخر. هذا ويلبغا السالمي يجد في تحصيل الأموال وأخذ في عرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم قادراً على السفر بالخروج إلى الشام لقتال تيمور، وألزم العاجز عن السفر بحضور بديل، أو تحصيل نصف مغله في السنة، وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب بسواحل القاهرة أن يؤخذ منهم عن كل إردب درهم أو أن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم.

(3/403)


ثم في يوم الثلاثاء أول شهر رجب أمر السالمي أن تضرب دنانير فيها ما زنة الدينار مائة مثقال ومثقال، وفيها ما زنته تسعون مثقالاً ومثقال، ثم ما دون ذلك، إلى أن وصل منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.
ثم في ثالثه خلع السلطان على علم الدين يحيى بن أسعد المعروف بأبي كم بآستقراره وزيراً بديار مصر عوضاً عن فخر الدين ماجد بن غراب.
ثم ورد الخبر أن دمرداش المحمدي نائب حلب تخلص من تيمور، وجمع جموعاً من التركمان، وأخذ حلب وقلعتها من التمرية، وقتل منهم جماعة كبيرة. ثم خلع السلطان على شاهين الحلبي نائب مقدم المماليك باستقراره في تقدمة المماليك السلطانية عوضاً عن صواب المعروف بجنكل، واستقر الطواشي فيروز من جرجي مقدم الرفرف نائب المقدم.
ثم حضر في سابع شهر رجب من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستة آلاف فارس، وحضر من عربان الشرقية من عرب ابن بقر ألفان وخمسمائة فارس، ومن العيساوية وبني وائل ألف وخمسمائة فارس، فأنفق فيهم يلبغا السالمي الأموال ليتجهزوا لحرب تيمور.
ثم حضر في ثامنه قاصد الأمير نعير، وذكر أنه جمع عرباناً كثيرة ونزل بهم على تدمر، وأن تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيفة.
هذا وقد التفت أهل الدولة إلى يلبغا السالمي والعمل في زواله حتى تم لهم ذلك.
فلما كان رابع عشر شهر رجب المذكور قبض على يلبغا السالمي وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة أستادار الوالد الذي كان ولي الوزر قبل تاريخه، وسلما لسعد الدين إبراهيم بن غراب ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس في الجبايات.
قلت: فصار حاله كالمثل السائر " أفقرني فيما أحب ولا استغنى " .
ثم في ثامن عشره استقر سعد الدين إبراهيم بن غراب المذكور أستاداراً عوضاً عن السالمي مضافاً لما بيده من وظيفتي نظر الجيش والخاص.
ثم في خامس شعبان برز الأمراء المعينون للسفر لقتال تيمور بمن عين معهم من المماليك السلطانية وأجناد الحلقة إلى ظاهر القاهرة، وهم الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق، وتقدم الجميع الأمير تمراز الناصري الظاهري أمير مجلس، والأمير آقباي من حسن شاه الظاهري حاجب الحجاب، ومن أمراء الطبلخانات: الأمير جرباش الشيخي، والأمير تمان تمر والأمير صوماي الحسني، وامتنع الأمير جكم من السفر.
وفي اليوم قدم الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس فاراً من أسر تيمور إلى الديار المصرية، وأخبر برحيل تيمور إلى بلاده، فرسم السلطان بإبطال السفر، ورجع كل أمير إلى داره من خارج القاهرة.
ثم في الغد قدم دقماق المحمدي نائب حماة فاراً أيضاً من تيمور.
وفيه طلب الوالد وخلع عليه باستقراره في نيابة دمشق ثانياً على كره منه، وكانت شاغرة في يوم قدوم تيمور دمشق.
ثم أخلع على الأمير شيخ المحمودي بآستقراره في نيابة طرابلس على عادته، وعلى الأمير دقماق المحمدي باستقراره في نيابة حماة على عادته.
ثم أخلع السلطان على الأمير تمربغا المنجكي باستقراره في نيابة صفد، وعلى الأمير تنكز بغا الحططي بنيابة بعلبك.
ثم نودي بالقاهرة ألا يقيم بها أحد من الأعاجم، وأمهلوا ثلاثة أيام، وهدد من تخلف منهم بالقاهرة، فلم يخرج أحد؛ وأكثر الناس من الكتابة في الحيطان: لا من نصرة الإسلام، قتل الأعجام، كل ذلك وأحوال مصر غير مستقيمة.
وأما البلاد الشامية فحصل بها جراد عظيم بعد خروج تمرلنك منها، فزادت خراباً على خراب.
قلت: ولنذكر هنا نبذة يسيرة من أخبار تيمورلنك ونسبه وكثرة عساكره وعظم دهائه ومكره، ليكون ناظر هذا الكتاب على علم من أخباره وأحواله، وإن كان في ذلك نوع تطويل وخروج عن المقصود، فهو لا يخلو من فائدة.
فنقول: هو تمرلنك وقيل تيمور - كلاهما بمعنى واحد، والثاني أفصح، وهو باللغة التركية الحديد - بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغلي الأصل، من طائفة جغتاي، الطاغية تيمور كوركان، أعني باللغة العجمية صهر الملوك.

(3/404)


مولده سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقرية تسمى خواجا أبغار من عمل كش أحد مدائن ما وراء النهر، وبعد هذه البلدة عن مدينة سمرقند يوم واحد، ويقال: إنه رئي ليلة ولد كأن شيئاً يشبه الخوفة تراءى طائراً في جو السماء، ثم وقع إلى الأرض في فضاء كبير، فتطاير منه جمر وشرر حتى ملأ الأرض. وقيل: إنه لما خرج من بطن أمه وجدت كفاه مملوءتين دماً، فوجدوا أنه تسفك على يديه الدماء. قلت: وكذا وقع.
وقيل: إن والده كان إسكافاً. وقيل: بل كان أميراً عند السلطان حسين صاحب مدينة بلخ، وكان أحد أركان دولته، وإن أمه من ذرية جنكزخان. وقيل: كان للسلطان حسين المذكور أربعة وزراء، فكان أبو تيمور أحدهم، وولي تيمور بعد موته مكانه عند السلطان حسين. وأصل تيمور من قبيلة برلاص.
وقيل: إن أول ما عرف من حال تيمور أنه كان يتحرم، فسرق في بعض الليالي غنمة وحملها ليهرب بها، فآنتبه الراعي وضربه بسهم فأصاب كتفه، ثم ردفه بآخر فلم يصبه، ثم بآخر فأصاب فخذه وعمل فيه الجرح الثاني الذي في فخذه حتى عرج منه؛ ولهذا سمي تمرلنك، لأن " لنك " باللغة العجمية أعرج؛ وأما اسمه الحقيقي " فتمر " بلا " لنك " ، فلما أعرج أضيف إليه " لنك " .
ولما تعافى أخذ في التحرم على عادته وقطع الطريق، وصحبه في تحرمه جماعة عدتهم أربعون رجلاً. وكان تيمور لنك يقول لهم في تلك الأيام: لا بد أن أملك الأرض وأقتل ملوك الدنيا، فيسخر منه بعضهم، ويصدقه البعض، لما يرونه من شدة حزمه وشجاعته. وقيل إنه تاه في بعض تحرماته مدة أيام إلى أن وقع على خيل السلطان حسين المقدم ذكره، فأنزله الجشاري الخيل عنده، وعطف عليه وآواه، وأتى إليه بما يحتاجه من طعام وشراب. وكان لتيمور معرفة تامة في جياد الخيل، فأعجب الجشاري منه ذلك، فاستمر به عنده إلى أن أرسل معه بخيول إلى السلطان حسين وعرفه به، فأنعم عليه وأعاده إلى الجشاري، فلم يزل عنده حتى مات، فولاه السلطان حسين عوضه على جشاره. ولا زال يترقى بعد ذلك من وظيفة إلى أخرى حتى عظم وصار من جملة الأمراء. وتزوج بأخت السلطان حسين، وأقام معها مدة إلى أن وقع بينهما في بعض الأيام كلام، فعايرته بما كان عليه من سوء الحال، فقتلها وخرج هارباً وأظهر العصيان على السلطان حسين، واستفحل أمره، واستولى على ما وراء النهر، وتزوج ببنات ملوكها، فعند ذلك لقب " بكور كان " ، وقد تقدم الكلام على اسم كور كان. ولا زال أمره ينمو وأعماله تتسع إلى أن. خافه السلطان حسين، وعزم على قتاله، وبلغه ذلك فخرج هارباً.
ثم قوي أمره بعد سنة ستين وسبعمائة. فلما كثر عسكره بعث إلى ولاة بلخشان، وكانا أخوين قد ملكا بعد موت أبيهما، يدعوهما إلى طاعته، فأجاباه وكانت المغل قد نهضت من جهة الشرق على السلطان حسين، وكان كبيرهم الخان قمر الدين، فتوجه السلطان حسين إليهم وقاتلهم، فأرسل تيمور يدعوهم إليه، فأجابوه ودخلوا تحت طاعته، فقويت بهم شوكته.
ثم قصده السلطان حسين ثانياً في عسكر عظيم حتى وصل إلى ضاغلغا، وهو موضع ضيق يسير الراكب فيه ساعة، وفي وسطه باب إذا أغلق وأحمي لا يقدر عليه أحد، وحوله جبال عالية، فملك العسكر فم هذا الدربند من جهة سمرقند، ووقف تيمور بمن معه على الطريق الآخر، وفي ظن العسكر أنهم حصروه وضيقوا عليه، فتركهم ومضى في طريق مجهولة. فسار ليلة في أوعار مشقة حتى أدركهم في السحر، وقد شرعوا في تحميل أثقالهم أبناء، على أن تيمور قد انهزم وهرب خوفاً منهم. فأخذ تيمور يكيدهم بأن نزل هو ومن معه عن خيولهم أو تركوها ترعى في تلك المروج، وناموا كأنهم من جملة العسكر، فمرت بهم خيولهم، وهم يظنون أنهم منهم وقد قصدوا الراحة. فلما تكامل مرور العسكر ركب تيمور بمن معه أقفيتهم، وهم يصيحون وأيديهم تدقهم دقاً بالسيوف، فاختبط الناس وانهزم السلطان حسين بمن معه لا يلوي أحد على أحد، حتى وصل إلى بلخ فاحتاط تمرلنك على ما كان معه، ولم من بقي من العسكر عليه، فعظم جمعه، وكثر ماله، واستولى على الممالك، ولا زال حتى قبض على السلطان حسين بعد أن أمنه وقتله، فهذا أول عظمته.

(3/405)


والثانية واقعته مع تقتمش خان ملك التتار، فإنه لما واقعه بأطراف تركستان قريباً من نهر خجند، واشتد الحرب بينهما وكثرت القتلى في عسكر تيمور حتى كادت تفنى، وعزم تيمور على الهزيمة، فإذا هو بالمعتقد السيد الشريف بركة قد أقبل على تيمور، فقال له تيمور وقد جهده البلاء: " يا سيدي جيشي انكسر " ، فقال له السيد الشريف بركة المذكور: " لا تخف " ؛ ثم نزل عن فرسه وتناول كفاً من الحصى، ثم ركب فرسه ورمى بها في وجوه جيش تقتمش وصرخ قائلاً بأعلى صوته " ياغي قجتي " - يعني باللغة التركية: العدو هرب - فصرخ بها أيضاً تيمور كمقالة الشريف بركة، فامتلأت آذان التمرية بصرختهما وأتوه بأجمعهم بعدما كانوا ولوا هاربين. فكربهم تيمور ثانياً في عسكر تقتمش، وما منهم أحد إلا وهو يصرخ " ياغي قجتي " ، فانهزم عند ذلك عسكر تقتمش خان، وركبت التمرية أقفيتهم، وغنموا منهم من الأموال ما لا يدخل تحت حصر، فاستولى على غالب بلاد تقتمش خان.
والثالثة واقعته مع شيرة علي صاحب مازندران وكيلان وبلاد الري والعراق وكسره وقبض عليه وقتله وملك جميع بلاده. ثم قصته مع شاه شجاع صاحب شيراز وتزوج بنت شاه شجاع لابن تيمور، ومهادنة شاه شجاع له إلى أن مات شاه شجاع، واختلفت أولاده وقوي شاه منصور على اخوته فمشى عليه تيمور هذا، فلقيه شاه منصور في ألفي فارس لا غير. وشاه منصور هذا هو أفرس من قاتل تيمور من الملوك بلا مدافعة، فإنه برز إليه في ألفي فارس وعساكر تيمور نحو المائة ألف. وعندما برز له شاه منصور فر من عسكره أمير يقال له محمد بن أمين الدين إلى تيمور بأكثر العساكر، فبقي شاه منصور في أقل من ألف فارس، فقاتل بهم تيمور يومه إلى الليل. ثم مضى كل من الفريقين إلى معسكره، فركب شاه منصور في الليل وبيت التمرية، فقتل منهم نحو العشرة آلاف فارس. ثم انتخب شاه منصور من فرسانه خمسمائة فارس، فأصبح وقاتل بهم من الغد، وقصد بهم تيمور حتى أزاله عن موقفه، وهرب تيمور واختفى بين حرمه، فأحاط بهم التمرية مع كثرة عددهم وهو يقاتلهم حتى كلت يداه وقتلت أبطاله، فانفرد عن أصحابه وألقى نفسه بين القتلى، فضربه بعض التمرية فقتله، وأتى برأسه إلى تيمور، فقتل تيمور قاتله أسفاً عليه. واستولى تيمور أيضاً على جميع ممالك العجم بأسرها بعد شاه منصور. هذا وقد استوعبنا واقعة شاه منصور بأوسع من ذلك في تاريخنا المنهل الصافي إذ هو كتاب تراجم.
ثم أخذ تيمور في الاستيلاء على مملكة بعد مملكة حتى ملك العراقين، وهرب منه السلطان أحمد بن أويس، وأخرب غالب العراق: مثل بغداد والبصرة والكوفة وأعمالهم، ثم ملك غالب أقاليم ديار بكر، وأخرب بها أيضاً عدة بلاد. ثم قصد البلاد الشامية في سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، ثم رجع خائفاً من الملك الظاهر برقوق إلى بلاده، فبلغه موت فيروز شاه ملك الهند عن غير ولد، و أن أمر الناس بمدينة دلي في اختلاف، وأنه جلس على تخت الملك بدلي وزير يقال له ملو، فخالف عليه أخو فيروز شاه، واسمه سارنك خان متولي مدينة مولتان، فلما سمع تيمور هذا الخبر اغتنم الفرصة وسار من سمرقند في ذي الحجة سنة ثمانمائة إلى مولتان وحاصر ملكها سارنك خان ستة أشهر، وكان في عسكر سارنك خان ثمانمائة فيل حتى ملكها.
ثم سار تيمور إلى مدينة دلي وهي تخت الملك، فخرج لقتاله صاحبها ملو المذكور وبين يديه عساكره ومعهم الفيلة، وقد جعل على كل فيل برجاً فيه عدة من المقاتلة، وقد ألبست تلك الفيلة العدد والبركستوانات، وعلق عليها من الأجراس والقلاقل ما يهول صوته ليجفل بذلك خيول الجغتاي، وشدوا في خراطيمها عدة من السيوف المرهفة، وسارت عساكر الهند من وراء الفيلة لتنفر هذه الفيلة خيول التمرية بما عليها، فكادهم تيمور وحسب حسابهم بأن عمل آلافاً من الشوكات الحديد مثلثة الأطراف، ونثرها في مجالات الفيلة، وجعل على خمسمائة جمل أحمال قصب محشوة بالفتائل المغموسة بالدهن، وقدمها أمام عسكره، فلما تراءى الجمعان وزحف الفريقان للحرب، أضرم تيمور في تلك الأحمال النار وساقها على الفيلة. فركضت تلك الأباعر من شدة حرارة النار، ثم نخسها سواقوها من خلف. هذا وقد أكمن تيمور كميناً من عسكره.

(3/406)


ثم زحف بعسكره قليلاً وقت السحر. فعندما تناوش القوم القتال لوى تيمور رأس فرسه راجعاً، يوهم القوم أنه قد انهزم منهم ويكف عن طريق الفيلة كأن خيوله قد جفلت منها، وقصد المواضع التي نثر فيها تلك الشوكات الحديد التي صنعها، فمشت حيلته على الهنود، ومشوا بالفيلة وهم يسوقونها خلفه أشد السوق حتى داست على تلك الشوكات الحديد، فلما وطئتها نكصت على أعقابها.
ثم التف تيمور بعساكره عليها بتلك الجمال، وقد عظم لهيبها على ظهورها، وتطاير شررها في تلك الآفاق، وشنع زعاقها من شدة النخس في أدبارها.
فلما رأت الفيلة ذلك جفلت وكرت راجعة على العسكر الهندي، فأحست بخشونة الشوكات التي طرحها تيمور في طريقها، فبركت وصارت في الطريق كالجبال مطروحة على الأرض لا تستطيع الحركة، وسالت أنهار من دمائها؛ فخرج عند ذلك الكمين من عسكر تيمور من جنبي عسكر الهنود، ثم حطم تيمور بمن معه، فتراجعت الهنود وتراموا بالسهام. ثم إنهم تضايقوا وتقاتلوا بالرماح ثم بالسيوف والأطبار. وصبر كل من الفريقين زماناً طويلاً إلى أن كانت الكسرة على الهنود، بعد ما قتل أعيانهم وأبطالهم، وانهزم باقيهم بعد أن ملوا من القتال. فركب تيمور أقفيتهم حتى نزل مدينة دلي وحصرها وأخذها بعد مدة عنوة. وآستولى على تخت ملكها واستصفى ذخائرها، وفعلت عساكره فيها على عادتهم القبيحة من الأسر والسبي والقتل والنهب والتخريب.
وبينما هم في ذلك بلغ تيمور موت الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وموت القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس من بلاد الروم، فرأى تيمور أنه بعد موتهما ظفر بمملكتيهما، وكاد أن يطير بموتهما فرحاً، فنجز أمره وولى مسرعاً بعد أن استناب بالهند من يثق به من أمرائه، وسار حتى وصل سمرقند، ثم خرج منها عجلاً في أوائل سنة اثنتين وثمانمائة، فنزل خراسان.
ثم مضى منها إلى تبريز فاستخلف بها آبنه ميران شاه. ثم سار حتى نزل قراباغ في شهر ربيع الأول، فقتل وسبى. ثم رحل منها ونزل تفليس في جمادى الآخرة وعبر بلاد الكرج، وأسرف فيها أيضاً في القتل والسبي. ثم قصد بغداد ففر منه السلطان أحمد بن أويس إلى قرا يوسف، فعاد تيمور من بغداد وصيف ببلاد التركمان. ثم سار إلى سيواس وقد أخذها الأمير سليمان بن أبي يزيد بن عثمان، فحصرها تيمور ثمانية عشر يوماً حتى أخذها في خامس المحرم من سنة ثلاث وثمانمائة، وقبض على مقاتلتها وهم ثلاثة آلاف نفر، فحفر لهم سرداباً وألقاهم فيه وطمهم بالتراب بعد ما كان حلف لهم ألا يريق لهم دماً وقال: أنا على يميني، ما أرقت لهم دماً. ثم وضع السيف في أهل البلد وأخربها حتى محا رسومها.
ثم سار إلى بهسنا فنهب ضواحيها وحصر قلعتها ثلاثة وعشرين يوماً حتى أخذها. ومضى إلى ملطية فدكها دكاً. وسار حتى نزل قلعة الروم فلم يقدر عليها، فتركها وقصد عين تاب، ففر منه نائبها الأمير أركماس الظاهري، وهو غير أركماس الدوادار في الدولة الأشرفية.
ثم قصد حلب ووقع له بها وبدمشق ما تقدم ذكره إلى أن خرج من البلاد الشامية. وكان رحيله عن دمشق في يوم السبت ثالث شعبان من سنة ثلاث وثمانمائة المذكورة، واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانياً، ثم سار منها حتى نزل على ماردين يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها.
وأوهم أنه يريد سمرقند، يوري بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميراً يقال له فرج، وتوجه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفاً لأخذ بغداد. ثم تبعه بمن بقي معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوة في يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف في أهل بغداد.

(3/407)


حدثني الأمير أسنباي الزردكاش الظاهري برقوق - وكان أسر عند تيمور وحظي عنده، وجعله زردكاشه عند أخذ بغداد وحصارها - بأشياء مهولة، منها أنه لما آستولى على بغداد ألزم جميع من معه أن يأتيه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد؛ فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهاراً، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مئذنة. فكانت عدة من قتل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريباً مائة ألف إنسان - وقال المقريزي: تسعين ألف إنسان - وهذا سوى من قتل في أيام الحصار، وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه في الدجلة فغرق، وهو أكثر من ذلك.
قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأة من النساء وأزال شعرها وأحضرها، قال: وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مر به ويقطع رأسه.
ثم رحل تيمور عن بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكاً خراباً، ثم كتب إلى أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم أن يخرج السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره. فرد أبو يزيد جوابه بلفظ خشن إلى الغاية؛ فسار تيمور إلى نحوه. فجمع أبو يزيد بن عثمان عساكره من المسلمين والنصارى وطوائف التتر.
فلما تكامل جيشه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع أبي يزيد بن عثمان يقول لهم: نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا،ويكون لكم الروم عوضهم.فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه.
وسار أبو يزيد بن عثمان بعساكره على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويرده عن عبور أرض الروم. فسلك تيمور غير الطريق، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد ابن عثمان، ونزل بأرض مخصبة وسيعة. فلم يشعر ابن عثمان إلا وقد نهبت بلاده، فقامت قيامته وكر راجعاً، وقد بلغ منه ومن عسكره التعب مبلغاً أوهن قواهم، وكلت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل بابن عثمان مخامرة التتار بأسرها عليه، فضعف بذلك عسكره، لأنهم كانوا معظم عسكره، ثم تلاهم ولده سليمان ورجع عن أبيه عائداً إلى مدينة برصا بباقي عسكره، فلم يبق مع أبي يزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمور، وصدمهم صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم. وآستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فكفت عساكر آبن عثمان، وتكاثروا التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صرع منهم أكثر أبطالهم، وأخذ أبو يزيد بن عثمان أسيراً قبضاً باليد على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة سنة أربع وثمانمائة بعد أن قتل غالب عسكره بالعطش، فإن الوقت كان ثامن عشرين أبيب بالقبطي وهو تموز بالرومي. وصار تيمور يوقف بين يديه في كل يوم ابن عثمان طلباً ويسخر منه وينكيه بالكلام. وجلس تيمور مرة لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب ابن عثمان طلباً مزعجاً، فحضر وهو يرسف في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه.
ثم قدم على تيمور إسبندار أحد ملوك الروم بتقادم جليلة، فقبلها وأكرمه ورده إلى مملكته. هذا وعساكر تيمور تفعل في بلاد الروم وأهلها تلك الأفعال المقدم ذكرها.
وأما أمر سليمان بن أبي يزيد بن عثمان، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة برصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل إستانبول. فبعث تيمور فرقة كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى برصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضاً بعساكره.
ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس أبي يزيد بن عثمان، وخلع عليهما وولاهما بلادهما، وألزم كل واحد منهما بإقامة الخطبة، وضرب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش.
ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر ابن عثمان حتى أفناهم عن آخرهم.

(3/408)


وأما أبو يزيد بن عثمان، فإنه استمر في أسر تيمور من ذي الحجة سنة أربع، إلى أن مات بكربته وقيوده، في أيام من ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة، بعد أن حكم ممالك الروم نحو تسع سنين.
وكان من أجل الملوك حزماً وعزماً وشجاعة، رحمه الله تعالى. وهو المعروف بيلدرم بايزيد.
ثم رجع تيمور من بلاد الروم وقد تعلقت آماله بأخذ بلاد الصين، فأخذه الله قبل أن يصل، ولولا خشية الإطالة لذكرنا أمره وما وقع له بطريق الصين، إلى أن توفي لعنه الله، ولكن أضربنا عن ذلك خشية الإطالة، وأيضاً قد ذكرناه في تاريخنا " المنهل الصافي " مستوفاة، فلينظر هناك.
وكانت وفاة تيمور في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانماثة وهو نازل بالقرب من أترار، وأترار بالقرب من آهنكران، ومعنى آهنكران باللغة العربية الحدادون.
ولما مات لبسوا عليه المسوح، ولم يكن معه أحد من أولاده سوى حفيده سلطان خليل بن ميران شاه بن تيمور، فتسلطن موضع جده تيمور في حياة والده ميران شاه المذكور. فاستولى خليل المذكور على خزائن جده وبذل الأموال، وتم أمره. انتهى ما أوردناه من قصة تيمورلنك على سبيل الاختصار.
ولنعد إلى ما نحن بصدده من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق رحمه الله.
ولما كان يوم الأحد أول شوال أفرج السلطان عن الأمير يلبغا السالمي وهو متضغف بعد ما عصر وأهين إهانة بالغة.
وفي هذه الأيام كثر آحتراز الأمراء بعضهم من بعض، وتحدث الناس بإثارة فتنة. ثم في سابع شوال المذكور استقر الأمير طولو من على باشاه الظاهري في نيابة إسكندرية عوضاً عن الأمير أرسطاي، واستقر الأمير بشباي من باكي الظاهري حاجباً ثانياً على خبز سودون الطيار، إمرة طبلخاناه، واستقر كل من سودون الطيار وألطنبغا من سيدي حجاباً بحلب لأمر اقتضى ذلك.
ثم استدعى السلطان الأمراء بقلعة الجبل، وقال لهم: " قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية بأمريات ببلاد الشام من أول شهر رمضان، فلم لا يسافرون؟ " وكل ذلك بتعليم يشبك الدوادار. فقال الأمير نوروز الحافظي: " ما في هذا مصلحة! إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى عنده من مماليك أبيه الأعيان؟ " ووافق نوروزاً سودون المارداني. فقال السلطان: " من رد مرسومي فهو عدوي " ، فسكت الأمراء. وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها. فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من رد منشوره، فغضب السلطان. وأصبح الجماعة يوم الأحد، وقد اتفقوا مع لأمراء وساروا للأمير نوروز الحافظي وتحدثوا معه في عدم سفرهم، فاعتذر إليهم، وبعثهم لسودون المارداني رأس نوبة النوب فحدثوه في ذلك، وما زالوا به حتى ركب للأمير يشبك الشعباني الدوادار وحدثه في ألا يسافروا، فأغلظ يشبك في رد الجواب عليه، وهددهم بالتوسيط إن امتنعوا من السفر.
ثم أمره أن يطلع إلى السلطان ويسأله في ذلك، فطلع سودون المارداني إلى السلطان، وسأله في إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد آتفق منهم نحو الألف تحت القلعة، وهم مجتمعون، فبعث السلطان إليهم بعض الخاصكية يقول لهم: " نحن ما خليناكم بلا رزق، بل عملناكم أمراء " . فما هو إلا أن نزل إليهم وكلمهم في ذلك، ثاروا عليه وسبوه ثم ضربوه حتى كاد يهلك. وبينما هم في ضربه، وإذا بالأمير قطلوبغا الحسني الكركي والأمير آقباي الكركي الخازندار نزلا من القلعة، فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدبابيس إلى أن سقط قطفوبغا الكركي، وتكاثر عليه مماليكه وحملوه إلى بيته، ونجا آقباي الكركي الخازندار والتجأ إلى بيت الأمير يشبك الدوادار. وماجت البلد وغلقت الأسواق، فنودي بعد العصر من اليوم المذكور بطلوع الأمراء والمماليك السلطانية في الغد إلى القلعة، ومن لم يطلع حل ماله ودمه للسلطان.
ثم طلع الآمير يشبك، ونوروز الحافظي، وآقباي الكركي الخازندار، وقطلوبغا الكركي إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بالقلعة، إلا نوروزاً فإنه أقام معهم ساعة عند السلطان، ثم نزل إلى داره. وطلع أيضاً في الليل غالب المماليك السلطانية.

(3/409)


وأصبحوا يوم الاثنين تاسع شوال، فطلع جميع الأمراء والمماليك إلا الأمير جكم من عوض، وسودون الطيار، وقاني باي العلائي، وقرقماس الأينالي، وجمق وتمربغا المشطوب، في عدة من المماليك السلطانية الأعيان، منهم يشبك العثماني، وقمج وبرسبغا وطرباي وبقية خمسمائة مملوك، والجميع لبسوا السلاح وآلة الحرب ووقفوا تحت القلعة حتى تضحى النهار. ثم مضوا إلى بركة الحبش ونزلوا عليها.
وأما أهل القلعة، فإن يشبك بعث في الحال نقيب الجيش إلى الشيخ لاجين الجركسي أحد الأجناد، فقبض عليه وحمله إلى بيت آقباي حاجب الحجاب، فوكل به آقباي من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس ليسافر إلى الشام.
ثم قبض على سودون الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاجين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها.
واستمر الأمير جكم ورفقته ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعى الأمير يشبك سائر الأمراء، فلما صاروا بالقلعة وكل بهم من يحفظهم، فآستمروا على ذلك حتى مضى جانب من الليل.
ثم نزل الطلب إلى الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير من السلطان ليطلع إلى عند الأمراء، وفي عزمهم أنه إذا طلع قبضوا عليه، فنم لسودون طاز بعض الخاصكية يسمى قاني باي، وقال له: " فز بنفسك " فلم يكذب سودون طاز الخبر، وأخذ الخيول السلطانية التي بالإسطبل السلطاني، وركب بمماليكه، وسار حتى لحق بالأمير جكم ببركة الحبش. وبلغ السلطان ذلك، فارتج القصر السلطاني، وقام كل أمير ونزل إلى داره ولبس آلة الحرب بمماليكه، ودقت الكوسات وطلعوا إلى القلعة.
فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإسطبل، وبعث إلى الأمير جكم من عوض بأن يتوجه إلى صفد نائباً بها، فرد جكم الجواب: " نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، ولو أراد قتلنا ما خالفناه، غير أننا لنا غرماء يدعنا نحن وإياهم، ثم بعد ذلك مهما أراد السلطان يفعل فينا، فنحن بين يديه " . فلما عاد الرسول بذلك بكى الأمير يشبك الدوادار، وتكلم هو والأمير آقباي الكركي الخازندار وقطلوبغا الكركي مع السلطان، ودار بينهم الكلام الكثير، حتى بعث السلطان بالأمير نوروز الحافظي والقاضي الشافعي وناصر الدين المعلم الرماح أمير آخور إلى الأمير جكم في طلب الصلح. فنزلوا إليه وكلموه في ذلك، فامتنع جكم من الصلح هو ومن معه وقالوا: " لا بد لنا من غرمائنا " وأخذوا عندهم الأمير نوروز الحافظي، وعاد القاضي الشافعي وناصر الدين الرماح بالجواب، فعند ذلك قال السلطان ليشبك: " دونك وغرماءك " فطلب يشبك المساعدة من السلطان عليهم، فلم يفعل، فنزل يشبك إلى داره وقد اختل أمره.
ثم عاد إلى القلعة ليطلع إلى السلطان فلم يمكن منها، وتخلى عنه المماليك السلطانية؛ فلم تكن إلا ساعة حتى أقبل جكم وسودون طاز ونوروز في عددهم وأصحابهم، وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وسودون طاز عن يمينه، وساروا نحو يشبك، فنادى يشبك: من قاتل معي من المماليك السلطانية فله عشرة آلاف درهم فأتاه طائفة. وخرج من بيته وصف عساكره. فحمل عليه نوروز بمن معه، وصدمه صدمة واحدة كسره فيها؛ فانهزم إلى داره وقاتل بها ساعة، ثم هرب منها، فنهبت داره ودار قطلوبغا الكركي. وكان بيت يشبك دار منجك اليوسفي الملاصقة لمدرسة السلطان حسن، وهي الآن على ملك تمربغا الظاهري الدوادار، ودار قطلوبغا الكركي البيت الذي تجاهه، وقبض على آقباي الكركي الخازندار، فشفع فيه السلطان، فترك في داره إلى يوم الخميس ثاني عشره، فركب الأمير جكم إليه، وأخذه وطلع به إلى الإسطبل السلطاني وقيده.
ثم قبض على الأمير قطلوبغا الكركي الحسني من بيت الأمير يلبغا الناصري وقيده.

(3/410)


ثم قبض على جركس القاسمي المصارع من عند سودون الجلب، وقيده وبعث الثلاثة إلى الإسكندرية، والثلاثة أمراء ألوف من أصحاب يشبك. وسافروا إلى الإسكندرية في ليلة السبت رابع عشر شوال المذكور من سنة ثلاث وثمانمائة، وكتب جكم بإحضار سودون الفقيه من الإسكندرية - وسودون الفقيه هذا حمو الملك الظاهر ططر، وجد الملك الصالح محمد بن ططر الآتي ذكرهما. وطلب جكم الأمير يشبك الشعباني الدوادار فلم يقدر عليه إلى ليلة الاثنين سادس عشره، دل عليه أنه في تربة بالقرافة، فنزل إليه جكم؛ فلما أحيط بيشبك، وهو في التربة المذكورة، ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشج جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز الحافظي، فقيد وسير من ليلته إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفي يوم الاثنين خلع على سعد الدين إبراهيم بن غراب باستمراره في وظائفه، وهو أحد أصحاب يشبك، بعد أن اجتهد غاية الاجتهاد في رضا جكم عليه فلم يقدر.
ثم في ثامن عشره أخلع السلطان على الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس باستمراره على نيابته، وهي خلعة السفر، وكان له من يوم قدم من أسر تيمور بالقاهرة في عمل مصالحه، وكذلك الأمير دقماق نائب صفد خلع عليه خلعة السفر - وكان دقماق أولاً نائب حماة، ثم صار الآن في نيابة صفد - وأذن لهما بالسفر إلى محل كفالتهما.
وفي تاسع عشره خلع السلطان الملك الناصر على الأمير جكم باستقراره دواداراً كبيراً عوضاً عن يشبك الشعباني، بحكم حبسه بالإسكندرية، وعلى سودون من زاده باستقراره خازنداراً، عوضاً عن آقباي الكركي، وعلى أرغون من يشبغا باستقراره شاد الشراب خاناه، عوضاً عن قطلوبغا الكركي، وأخلع على بيسق الشيخي خلعة إمرة الحاج على العادة، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحج بمكة لعمارة ما بقي من المسجد الحرام.
ثم في سادس عشرين شوال أخلع السلطان على الأمير يونس الحافظي باستقراره في نيابة حماة بعد عزل الأمير عمر بن الهيدباني. وفي هذا اليوم أنعم على الأمير جكم من عوض الدوادار بإقطاع يشبك الشعباني الدوادار، وعلى سودون الطيار بإقطاع الأمير جكم، وأنعم لإقطاع آقباي الكركي على قاني باي العلائي، وبإقطاع قطلوبغا الكركي على تمربغا من باشاه المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس القاسمي المصارع على سودون من زاده بستين فارساً.
ثم في أول ذي القعدة ألزم سعد الدين بن غراب بتجهيز نفقة المماليك السلطانية، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ويلبغا السالمي بمائة ألف دينار، فشرع الجميع في تجهيزها.
ثم قبض على السالمي وصودر، وعذب بأنواع العذاب، ثم أفرج عنه بعد مدة، واستمر الحال على أن جكم صار متحدثاً في المملكة.
ثم في رابع ذي الحجة اختفى سعد الدين بن غراب، وأخوه فخر الدين ماجد، ولم يعرف خبرهما. فاستقر ناصر الدين محمد بن سنقر في الأستدارية، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، مضافاً لما معه من الذخيرة والأملاك.
ثم استعفى سودون من زاده من وظيفة الخازندارية، وخلع على الوزير علم الدين أبي كم باستقراره في نظر الخاص مضافاً على الوزر عوضاً عن سعد الدين بن غراب، وخلع على سعد الدين بن أبي الفرج ابن بنت الملكي، صاحب ديوان الجيش، واستقر في نظر الجيش عوضاً عن آبن غراب.

(3/411)


ثم في تاسع في الحجة ورد كتاب مشايخ تروجة يتضمن قدوم سعد الدين بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطاني باستخراج الأموال، ومسيرهم معه إلى الإسكندرية لإخراج يشبك والأمراء من سجن الإسكندرية، وإحضارهم إلى القاهرة. فخلع السلطان على رسولهم، وكتب على يده مثالاً سلطانياً بالقبض على ابن غراب ومن معه، وإرسالهم إلى القاهرة. ثم قدم كتاب نائب الإسكندرية بأن سعد الدين بن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بعلام الخدام بالزعر إلى تروجة، فأعطى لكل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرر معهم قتل النائب، فبلغ ذلك النائب، فلما قدموا إلى الإسكندرية قبض على جماعة منهم وقتل بعضهم وقطع أيدي بعضهم، وضرب علام الخدام بالمقارع، وأنه أيضاً ظفر بكتاب ابن غراب لبعض تجار الإسكندرية، وفيه أن يجتمع بالنائب ويؤكد عليه ألا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر في أمر يشبك الدوادار ومن معه من الأمراء، وأن يجعل باله لا يجري عليه مثل ما جرى على ابن عرام في قتله الأمير بركة.
ثم وردت كتب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أماناً، وكتب له الأمراء ما خلا الأمير جكم، فإنه كتب إليه كتاباً ولم يكتب إليه أماناً، فقدم إلى القاهرة في حادي عشرينه في الليل، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار الأمير سودون طاز أمير آخور، فتحدث له مع سودون طاز وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومي الثلاثاء والأربعاء، حتى استرضى له الأمراء. وأحضره في يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، وخلع عليه باستقراره في وظائفه القديمة: الأستادارية، ونظر الجيش، والخاص. ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه جكم من الدخول إليه ورده. ومما زال يسعى آبن غراب حتى دخل إليه مع الأمير سودون من زادة، وقبل يده فلم يكلمه كلمة، وأعرض عنه. فلم يزل حتى أرضاه بعد ذلك.
ثم وفي يوم الخميس سلخ ذي الحجة أنفق آبن غراب تتمة النفقة على المماليك السلطانية، فأعطى كل واحد ألف درهم. وعندما نزل من القلعة أدركه عدة من المماليك السلطانية ورجموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به حتى أجاره.
ثم في محرم سنة أربع وثمانمائة، كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الأمير تغري بردي - أعني الوالد - ، فكتب للوالد بذلك بعض أعيان أمراء مصر، فسبق ذلك المثال السلطاني. فركب الوالد من دار السعادة بدمشق في نفر من مماليكه في ليلة الجمعة ثاني عشرين المحرم وخرج إلى حلب، فتعين لنيابة دمشق، عوضاً عن الوالد، الأمير آقبغا الجمالي الأطروش أتابك دمشق، وكتب بانتقال دقماق نائب صفد إلى نيابة حلب، عوضاً عن دمرداش المحمدي بحكم عصيانه وانضمامه على الوالد لما قدم عليه من دمشق، واستقر الأمير تمربغا المنجكي في نيابة صفد عوضاً عن دقماق.
وأما الوالد رحمه الله فإنه لما سار إلى حلب وجد الأمير دمرداش نائب حلب قد قبض على الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان، فأمره الوالد بإطلاقه، فأطلقه، واتفق الجميع على الخروج عن طاعة السلطان بسبب من حوله من الأمراء. واجتمع عليهم خلائق من التركمان وغيرهم على ما سيأتي ذكره.
ثم وقع بين أمراء مصر وهو أن سودون الحمزاوي وقع بينه وبين أكابر الأمراء، مثل نوروز، وجكم، وسودون طاز، وتمربغا المشطوب، وقاني باي العلائي، فانقطعوا الجميع عن الخدمة السلطانية من أول صفر، وعزموا على إثارة فتنة؛ فلبس سودون الحمزاوي آلة الحرب في داره، واجتمع عليه من يلوذ به. وكان الأمراء المذكورون، قد عينوا قبل ذلك للخروج من ديار مصر ثمانية أنفس، وهم سودون الحمزاوي المذكور، وسودون بقجة وهما من أمراء الطبلخانات ورؤوس نوب، وأزبك الدوادار، وسودون بشتو وهما من أمراء العشرات، وقاني باي الخازندار، وبردبك وهما من الخاصكية، وآخران. ولما لبس الحمزاوي مشت الرسل بينهم في الصلح على أن وقع الاتفاق على خروج سودون الحمزاوي إلى نيابة صفد، وإقامة الباقين بمصر من غير حضورهم إلى الخدمة السلطانية.
ثم في سابع عشرين صفر المذكور، خلع على سودون الحمزاوي بنيابة صفد وبطل ولاية تمربغا المنجكي من صفد.

(3/412)


وفي هذا الشهر، حضر الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد كان، والأمير عمر ابن الطحان نائب غزة كان من أسر تيمورلنك، وذكرا أنهما فارقاه من أطراف بغداد. ثم في يوم الاثنين نصف شهر ربيع الأول من سنة أربع وثمانمائة، طلع الأمير نوروز الخدمة السلطانية، بعد ما انقطع عنها زيادة على شهر، فخلع عليه خلعة الرضا.
ثم في ثامن عشره، طلع الأمير جكم من عوض الدوادار الخدمة بعد ما انقطع عنها مدة شهرين وخلع عليه أيضاً. هذا ودقماق نائب حلب، وأقبغا الأطروش نائب الشام في الاستعداد وجمع التركمان والعشير لقتال الوالد ودمرداش. ثم خرج الوالد ودمرداش من حلب إلى ظاهرها لانتظار دقماق وقتاله.
ثم إن السلطان في شهر ربيع الآخر أخلع علي جمق رأس نوبة باستقراره دواداراً ثانياً عوضاً عن جركس المصارع، وكانت شاغرة من يوم مسك جركس المذكور، وآستقر مبارك شاه الحاجب وزيراً عوضاً عن علم الدين يحيى المعروف بأبي كم، وقبض على أبي كم وسلم لشاد الدواوين للمصادرة.
وفي العشر الأخير من هذا الشهر آستقر جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني قاضي قضاة الديار المصرية بعد عزل القاضي ناصر الدين الصالحي؛ وهذه أول ولاية جلال الدين البلقيني.
ثم في ثامن جمادى الأولى آستقر الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد كان، في نيابة غزة عوضاً عن الأمير صرق بعد عزله.
ثم ابتدأت الفتنة بين الأمراء، وطال الأمر، وانقطع جكم ونوروز عن الخدمة السلطانية أياماً كثيرة. ودخل شهر رمضان وانقضى، ولم يحضروا الهناء بالعيد، ولا صلوا صلاة العيد مع السلطان.
واستهل شوال فقويت فيه القالة بين الأمراء، وأرجف بوقوع الحرب غير مرة.
فلما كان يوم الجمعة ثاني شوال ركب الأمراء للحرب بالسلاح، ونزل الملك الناصر إلى الإسطبل السلطاني عند سودون طاز الأمير آخور، وركب الأمير نوروز وجكم وخصمهما سودون طاز، ووقع الحرب بينهم من بكرة النهار إلى العصر. فلما كان آخر النهار بعث السلطان بالخليفة المتوكل على الله والقضاة الأربعة إلى الأمير نوروز في طلب الصلح فلم يجد نوروز بداً من الصلح وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكف الأمير جكم أيضاً عن القتال. وكان ذلك مكيدة من سودون طاز، فإنه خاف أن يغلب ويسلمه السلطان إلى أخصامه، فتمت مكيدته بعد ما كاد أن يؤخذ، لقوة نوروز وجكم بمن معهما من الأمراء والخاصكية. وسكنت الفتنة، وبات الناس في أمن وسكون.
فلما كان يوم السبت ركب الخليفة والقضاة، وحلفوا الأمراء بالسمع ولطاعة للسلطان، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامس شوال، وخلع عليه السلطان، وأركبه فرساً بسرج ذهب وكنبوش زركش.
ثم طلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف، ولم يطلع قاني باي ولا قرقماس؛ وطلبا فلم يوجدا. فجهز إليهما خلعتان، على أن يكون قاني باي نائباً بحماة، وقرقماس حاجباً بدمشق. ونزل بغير خلعة، فكاد أن يهلك لكونه لم يخلع عليه. وعندما جلس بداره نزل إليه جرباش الشيخي رأس نوبة، وبشباي الحاجب الثاني ملفق. ثم ركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك، وأعيانهم: قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي - وهو الذي صار أتابكاً في دولة الأشرف برسباي - ويشبك العثماني، وألطنبغا جاموس، وجانيباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وساروا الجميع إلى بركة الحبش خارج القاهرة، ولحق بهم في الحال قاني باي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وقبجق، ونحو الخمسمائة مملوك من المماليك السلطانية، وغيرهم، وأقاموا جميعاً ببركة الحبش إلى ليلة السبت عاشر شوال، فأتاهم الأمير نوروز، وسودون من زادة رأس نوبة، وتمربغا المشطوب، في نحو الألفين من المماليك السلطانية وغيرهم، وأقاموا جميعاً ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء رابع عشر شوال، وأمرهم في زيادة وقوة، بمن يأتيهم أولاً بأول من الأمراء والمماليك السلطانية.
وفي الليلة المذكورة، دبر سودون طاز أمره وطلع إلى السلطان، وأنزله إلى الإسطبل السلطاني وبات به.

(3/413)


فلما أصبح بكرة يوم الأربعاء المذكور، ركب السلطان فيمن معه من الأمراء والخاصكية ونزل من القلعة، وسار نحو بركة الحبش من باب القرافة، بعد ما نادى في أمسه بالعرض. واجتمع إليه جميع عساكره، وقد صف سودون طاز عساكر السلطان، فلما قارب بركة الحبش، ركب نوروز وجكم بمن معهما أيضاً من الأمراء وأسر الأمير تمربغا المشطوب، وسودون من زاده، وعلي بن إينال، وأرغز، وهرب نوروز وجكم في عدة كثيرة من الأمراء والمماليك يريدون بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمراء وسودون طاز مظفراً منصوراً. وقيد سودون طاز الأمراء المأسورين، وبعثهم إلى الإسكندرية في ليلة السبت سابع عشره. وسار نوروز وجكم إلى أن وصلا إلى منيه القائد، ثم عادوا إلى طموه ونزلوا على ناحية منبابة، من بر الجيزة تجاه بولاق. وطلب الأمير يشبك الشعباني الدوادار من سجن الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين تاسع عشره إلى قلعة الجبل، ومعه خلائق ممن خرج إلى لقائه، فقبل الأرض ونزل إلى داره، كل ذلك والأمراء بالجيزة.
فلما كان ليلة الثلاثاء عشرين شوال ركب الأمير نوروز نصف الليل وعدى النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس. وكان بيبرس، قد تحدث هو وإينال باي من قجماس مع السلطان في أمر نوروز حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك أيضاً من مكر سودون طاز، فمشى ذلك على نوروز وحضر. فاختل عند ذلك أمر جكم، وتفرق منه من كان معه، وصار فريداً، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء حادي عشرين شوال إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، فتسلمه عدوه الأمير سودون طاز. وأصبح وقد حضر الأمير يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه. فلما كانت ليلة الخميس ثاني عشرينه، قيد وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها في البرج الذي كان سجن يشبك الدوادار فيه، وسكن يشبك مكانه وعلى إقطاعه بعدما حبس بالإسكندرية نحواً من سنة، واستقر دواداراً على عادته عوضاً عن جكم المذكور، على ما سيأتي ذكره.
وأما أمر البلاد الشامية فإن دقماق جمع جموعه من العساكر والتركمان لقتال الوالد ودمرداش نائب حلب، وسار إلى جهة حلب، فخرج إليه الوالد وعلى مقدمته دمرداش، وصدموه صدمة واحدة انكسر فيها بجموعه وولوا الأدبار، ونهب ما معهم. وعاد دقماق منهزماً إلى دمشق، واستنجد بنائبها الأمير آقبغا الجمالي الأطروش. وكتب أيضاً دقماق لجميع نواب البلاد الشامية بالحضور والقيام بنصرة السلطان، وجمع من التركمان والعربان جمعاً كبيراً، وخرج معه غالب العساكر الشامية، وعاد إلى جهة حلب بعساكر عظيمة، والوالد ودمرداش في مماليكهم لا غير، مع جدب البلاد الحلبية، وخراب قراها، فإنه كان، عقيب توجه تيمور بسنة واحدة وأشهر. فلما قارب دقماق بعساكره حلب أشار دمرداش على الوالد بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال الوالد: لا بد من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحق، فبرزا لدقماق بمماليكهما، وقد صف دقماق عساكره، واقتتلا قتالاً شديداً، وثبت كل من الفريقين، وقد أشرف دقماق على الهزيمة. وبينما هو في ذلك خرج من عسكر الوالد ودمرداش جماعة إلى دقماق، فانكسرت عند ذلك الميمنة. ثم انهزم الجميع إلى نحو بلاد التركمان، فلم يتبعهم أحد من عساكر دقماق. وملك دقماق حلب، واستمر الوالد ودمرداش ببلاد التركمان، على ما سيأتي ذكره.
وأما ما وقع بمصر فإنه لما حبس جكم من عوض بالإسكندرية، خلع على نوروز الحافظي في بيت بيبرس في يوم الأربعاء بنياية دمشق، وتوجه إلى داره.
فلما كان من الغد في يوم الخميس قبض عليه وحمل إلى باب السلسلة فقيد به وحمل من ليلته، وهي ليلة الجمعة ثالث عشرين شوال، إلى الإسكندرية، فسجن بها. وغضب لذلك الأميران بيبرس الأتابك، وإينال باي بن قجماس، وتركا طلوع الخدمة السلطانية أياماً. ثم أرضيا وطلعا إلى الخدمة. وراحت على نوروز. واختفى الأمير قاني باي العلائي وقرقماس الرماح، فلم يعرف خبرهما.

(3/414)


فلما كان يوم الاثنين ثالث ذي القعدة، أنعم السلطان بإقطاع الأمير نوروز على الأمير إينال العلائي المعروف بحطب رأس نوبة بعد أن أخرجوا منه النحريرية. وأنعم السلطان بإقطاع قاني باي العلائي على الأمير علان جلق، وبإقطاع تمربغا المشطوب على الأمير بشباي الحاجب الثاني، فلم يرض به، فاستقر باسم قطلوبغا الكركي، وكان إقطاعه قبل حبسه بالإسكندرية، وهو إلى الآن لم يحضر من سجن الإسكندرية. وبقي بشباي على طبلخانته.
وأنعم بإقطاع جكم من عوض على الأمير يشبك الشعباني الدوادار، وهو إقطاعه أيضاً قبل حبسه بالإسكندرية.
وأنعم على الأمير بيغوت بإمرة طبلخاناة، وعلى أسنبغا المصارع بإمرة طبلخاناة وعلى سودون بشتا بإمرة طبلخاناة.
ثم في سادس ذي القعدة، قدم الأمراء من سجن الإسكندرية من أصحاب يشبك، وهم الأمير آقباي طاز الكركي الخازندار، وقطلوبغا الحسني الكركي، وجركس القاسمي المصارع، وصعدوا إلى القلعة، وقبلوا الأرض بين يدي السلطان ثم نزلوا إلى بيوتهم. ثم رسم السلطان بانتقال الأمير شيخ المحمودي الساقي من نيابة طرابلس إلى نيابة دمشق بعد عزل الأمير آقبغا الجمالي الأطروش، وتوجهه إلى القدس بطالاً.
ولما كان يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي القعدة لعب الأمراء الكرة في بيت الأتابك بيبرس، فاجتمع على باب بيبرس من المماليك السلطانية نحو الألف مملوك يريدون الفتك بسودون طاز. وعندما خرج سودون طاز من بيت بيبرس هموا به، فتحاوطته أصحابه ومماليكه. وساق سودون حتى لحق بباب السلسلة، وامتنع بالإسطبل السلطاني حيث هو سكنه. ووقع كلام كثير، ثم خمدت الفتنة.
فلما كان رابع عشرينه، خلع السلطان على الأمير يشبك الشعباني باستقراره دواداراً على عادته، عوضاً عن الأمير جكم من عوض بحكم حبسه.
ثم في يوم السبت رابع عشر ذي الحجة خلع السلطان على الأمير آقباي الكركي باستقراره خازنداراً على عادته.
ثم في سلخ ذي الحجة استقر الأمير جمق الدوادار الثاني في نيابة الكرك، واستقر الأمير علان جلق أحد مقدمي الألوف بديار مصر في نيابة حماة، بعد عزل يونس الحافظي، فشق ذلك على سودون طاز.
ثم كتب السلطان، للأمير دمرداش أماناً، وأنه يستقر في نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير شيخ المحمودي المنتقل إلى نيابة دمشق، وكتب للأمير علي بك بن دلغادر بنيابة عين تاب، وللأمير عمر بن الطحان بنيابة ملطية.
وكانت الأخبار وردت بجمع التركمان ونزولهم مع دمرداش إلى حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع معه نائب حماة والأمير نعير، وأن تيمورلنك نازل على مدينة سيواس. ولم يحج أحد في هذه السنة من الشام ولا من العراق.
وفي ثالث المحرم من سنة خمس وثمانمائة أنعم السلطان بإقطاع علان جلق المستقر في نيابة حماة على الأمير جركس القاسمي المصارع، وبإقطاع جلق المستقر في نيابة الكرك على آقباي الكركي الخازندار، وزيد عليه قرية سمسطا.
هذا والكلام يكثر بين الأمراء والمماليك، والناس في تخوف من وقوع فتنة. فلما كان سابع المحرم نزل الأمير سودون طاز الأمير آخور الكبير من الإسطبل السلطاني بأهله ومماليكه إلى داره، وعزل نفسه عن الأمير آخورية، وصار من جملة الأمراء.
ثم في هذا الشهر قدم الوالد إلى دمشق بأمان كان كتب له من قبل السلطان مع كتب جميع الأمراء. فلما وصل إلى دمشق خرج الأمير شيخ المحمودي إلى تلقيه، حتى عاد معه إلى دمشق وأنزله بالقرمانية، وأكرمه غاية الإكرام بحيث إنه جاءه في يوم واحد ثلاث مرات.
ثم خرج الوالد بعد أيام من دمشق يريد الديار المصرية، فخرج الأمير شيخ أيضاً لوداعه، وسار حتى وصل إلى مصر في سلخ المحرم، بعد ما خرج الأمراء إلى لقائه. وطلع إلى القلعة، وقبل الأرضي بين يدي السلطان، فخلع السلطان عليه كاملية بمقلب سمور، وأركبه فرساً بسرج ذهب وكنبوش زركش. ثم نزل إلى داره ومعه سائر الأمراء. وظهر الأمير قرقماس الرماح، فشفع فيه الوالد، فإنه كان إنيه، فقبل السلطان شفاعته.
وأما أمر سودون طاز، فإنه أقام بداره إلى ليلة الاثنين ثالث عشر صفر من سنة خمس وثمانمائة المذكورة، فخرج من القاهرة بمماليكه وحواشيه إلى المرج والزيات بالقرب من خانقاه سرياقوس ليقيم هناك حتى يأتيه من وافقه ويركب على أخصامه ويقهرهم ويعود إلى وظيفته.

(3/415)


وكان من خبر سودون طاز أنه لما وقع بينه وبين يشبك أولاً، وصار من حزب نوروز وجكم، وقبضوا على يشبك وأصحابه من الأمراء وسجنوا بثغر الإسكندرية حسبما تقدم ذكره، صار تحكم مصر له، ويشاركه في ذلك نوروز وجكم فثقلا عليه. وأراد أن يستبد بالأمر والنهي وحده، فدبر في إخراجهما حتى تم له ذلك، ظناً منه أنه ينفرد بالأمر بعدهما. فانتدب إليه يشبك الشعباني الدوادار وأصحابه لما كان في نفوسهم منه قديماً بعد مجيئهم من حبس الإسكندرية، لأنه كان انحصر لخروجهم من الحبس.
وكان الملك الناصر يميل إلى يشبك وقطلوبغا الكركي، لأن كل واحد منهما كان لالته.
وكان الأمير آقباي طاز الكركي الخازندار يعادي سودون طاز قديماً ويقول طاز واحد يكفي بمصر، فأنا طاز وهو طاز ما تحملنا مصر. واتفقوا الجميع عليه، وظاهرهم السلطان في الباطن، فتلاشى أمر سودون طاز لذلك. وما زالوا في التدبير عليه حتى نزل من الإسطبل السلطاني، خوفاً على نفسه من كثرة جموع يشبك الدوادار، وجرأة آقباي الخازندار الكركي؛ فعندما نزل ظن أن السلطان يقوم بناصره، فلم يلتفت السلطان إليه، وأقام هذه المدة من جملة الأمراء، فشق عليه عدم تحكمه في الدولة، وكفه عن الأمر والنهي، وكان اعتاد ذلك، فخرج لتأتيه المماليك السلطانية وغيرهم، فإنه كان له عليهم أياد وإحسان زائد عن الوصف - ليحارب بهم يشبك وطائفته، ويخرجهم من الديار المصرية أو يقبض عليهم كما فعل أولاً ويستبد بعدهم بالأمر، فجاء حساب الدهر غير حسابه، ولم يخرج إليه أحد غير أصحابه الذين خرجوا معه. وأخلع السلطان على الأمير إينال باي من قجماس بآستقراره عوضه أمير اخوراً كبيراً في يوم الاثنين عشرين صفر، وبعث السلطان إلى سودون طاز بالأمير قطلوبغا الكركي يأمره بالعود على إقطاعه وإمرته من غير إقامة فتنة، وإن أراد البلاد الشامية فله ما يختاره من النيابات بها، فآمتنع من ذلك وقال: لا بد من إخراج آقباي طاز الكركي الخازندار أولاً إلى بلاد الشام، فلم يوافق السلطان على إخراج آقباي، وبعث إليه ثانياً بالأمير بشباي الحاجب الثاني فلم يوافق، فبعث إليه مرة ثالثة فلم يرض، وأبى إلا ما قاله أولاً من إخراج آقباي. فلما يئس السلطان منه ركب بالعساكر من قلعة الجبل، ونزل جميع عساكره بالسلاح وآلة الحرب في يوم الأربعاء سادس شهر ربيع الأول، فلم يثبت سودون طاز، ورحل بمن معه وهم نحو الخمسمائة من المماليك السلطانية ومماليكه، وقد ظهر الأمير قاني باي العلائي ولحق به من نحو عشرة أيام، وصار من حزبه، فتبعه السلطان بعساكره وهو يظن أنه توجه إلى بلبيس.
وكان سودون عندما وصل إلى سرياقوس نزل من الخليج ومضى إلى جهة القاهرة وعبر من باب البحر بالمقس، وتوجه إلى الميدان. وهجم قاني باي العلائي في عدة كبيرة على الرميلة تحت القلعة ليأخذ باب السلسلة، فلم يقدر على ذلك. ومر السلطان الملك الناصر وهو سائق على طريق بلبيس، وتفرقت عنه - العساكر وتاهوا في عدة طرق.
وبينما السلطان في ذلك بلغه أن سودون طاز توجه إلى نحو القاهرة وهو يحاصر قلعة الجبل، فرجع بأمرائه مسرعاً يريد القلعة حتى وصل إليها بعد العصر، وقد بلغ منه ومن عساكره التعب مبلغاً عظيماً. ونزل السلطان بالمقعد المطل على الرميلة من الإسطبل بباب السلسلة، وندب الأمراء والمماليك لقتال سودون طاز، فقاتلوه في الأزقة طعناً بالرماح ساعة فلم يثبت، وانهزم بمن معه، وقد جرح من الفريقين جماعة كثيرة، وحال الليل بينهم. وتفرق أصحاب سودون طاز عنه، وتوجه كل واحد إلى داره، وبات السلطان ومن معه على تخوف. وأصبح من الغد فلم يظهر لسودون طاز ولا قاني باي خبر، ودام ذلك إلى الليل. فلم يشعر الأمير يشبك وهو جالس بداره بعد عشاء الآخرة إلا وسودون طاز دخل عليه في ثلاثة أنفس، وترامى عليه، فقبله وبالغ في إكرامه وأنزله عنده. وأصبح يوم الجمعة كتب سودون طاز وصيته وأقام بدار يشبك إلى ليلة الأحد عاشره، فأنزل في حراقة وتوجه إلى ثغر دمياط بطالاً بغير قيد، ورتب له بها ما يكفيه، بعد أن أنعم عليه الأمير يشبك بألف دينار مكافأه له على ما كان سعى في أمره حتى أخرجه من حبس الإسكندرية وعوده إلى وظيفته وإبقائه في قيد الحياة، فإن جكم الدوادار كان أراد قتله عند ما ظفر به، وحبسه بالإسكندرية لولا سودون طاز هذا.

(3/416)


وأما قاني باي العلائي فإنه اختفى ثانياً فلم يعرف له خبر، وسكنت الفتنة.
فلما كان خامس عشرين شهر ربيع الأول قدم الأمير سودون الحمزاوي نائب صفد إلى القاهرة باستدعاء من السلطان صحبة الطواشي عبد اللطيف اللالا بسعي الأمير آقباي طاز الكرير الخازندار في ذلك لصداقة كانت بينهما. وخلع السلطان على الأمير شيخ السليماني شاد الشراب خاناه، واستقر في نيابة صفد عوضاً عن سودون الحمزاوي، وأنعم السلطان على سودون الحمزاوي بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة.
ثم أنعم السلطان على الوالد بإمرة مائة وتقدمة ألف، وأزيد مدينة أبيار من الديوان المفرد، ورسم له أن يجلس رأس ميسرة.
ثم أخرج الأمير قرقماس الرماح إلى دمشق على إقطاع الأمير صرق. وخلع السلطان على سودون الحمزاوي المعزول عن نيابة صفد باستقراره شاد الشراب خاناه عوضاً عن شيخ السليماني المسرطن المنتقل إلى نيابة صفد، فلم يقم سودون الحمزاوي في المشدية إلا أياماً؛ ومرض صديقه الأمير آقباي الكركى الخازندار ومات، فولي الخازندارية عوضه في يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة.
ثم في ليلة الأربعاء ثالث عشرين جمادى الآخرة غمز على قاني باي العلائي في دار فكبس عليه بها، وأخذ منها، وقيد وحمل إلى الإسكندرية.
وفي هذه الأيام ورد الخبر أن سودون طاز خرج من ثغر دمياط يوم الخميس رابع عشرين جمادى الآخرة في طائفة، وأنه اجتمع عليه جماعة كبيرة من العربان والمماليك، فندب السلطان لقتاله الوالد والأمير تمراز الناصري أمير مجلس وسودون الحمزاوي في عدة أمراء أخر. وخرجوا من القاهرة، فبلغهم أنه عند الأمير علم الدين سليمان بن بقر بالشرقية جاءه ليساعده على غرضه، فعندما أتاه أرسل ابن بقر إلى الأمراء يعلمهم بأن سودون طاز عنده، فطرقه الأمراء وقبضوا عليه وأحضروه إلى القلعة في يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة.
ثم أصبح السلطان في يوم الخميس أول شهر رجب، سفر خمسة من المماليك السلطانية ممن كان مع الأمير سودون طاز، أحدهم سودون الجلب الآتي ذكره في عدة أماكن، ثم جانبك القرماني حاجب حجاب زماننا هذا، فاجتمع المماليك السلطانية لإقامة الفتنة بسببهم. وتكلم الأمراء مع السلطان في ذلك، فخلى عنهم، وقيدوا وسجنوا بخزانة شمائل، ونفي سودون الجلب إلى قبرس بلاد الفرنج من الإسكندرية.
ثم في ثالث شهر رجب حمل سودون طاز مقيداً إلى الإسكندرية، وسجن بها عند غريمه الأمير جكم من عوض الدوادار.
وفي هذا الشهر ورد الخبر من دمشق أنه أقيمت الجمعة بالجامع الأموي وهو خراب، وكان بطل منه صلاة الجمعة من بعد كائنة تيمور، وأن الأمير شيخا المحمودي نائب دمشق سكن بدار السعادة بعد أن عمرت، وكانت حرقت أيضاً في نوبة تيمور، وأن سعر الذهب زاد عن الحد، فأجيب بأن الذهب قد زاد سعره بمصر أيضاً، حتى صار سعر المثقال الهرجة بخمسة وستين درهماً، والدينار المشخص بستين درهماً.
ثم عقد السلطان عقد الأمير سودون الحمزاوي على أخته خوند زينب بنت الملك الظاهر برقوق، وعمرها نحو الثمان سنين، فصارت أخوات السلطان الثلاث كل واحدة منها مع أمير من أمرائه؛ فخوند سارة زوجة الأمير نوروز الحافظي، وخوند بيرم زوجة الأمير إينال باي بن قجماس، وخوند زينب وهي أصغرهن مع سودون الحمزاوي هذا.
ثم في يوم الاثنين سادس عشرين شهر رجب خلع السلطان على قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستقراره في قضاء الحنفية بالديار المصرية بعد أن عزل القاضي أمين الدين عبد الوهاب الطرابلسي بسفارة الوالد لصحبة كانت بينهما من حلب.
ثم في ليلة الثلاثاء سابع عشرين شهر رجب المذكور أرسل السلطان إلى الإسكندرية الأمير آقبردي والأمير تنبك من الأمراء العشرات في ثلاثين مملوكاً من المماليك السلطانية، فوصلوها في تاسع شعبان، وأخرجوا الأمير نوروز الحافظي، وجكم من عوض، وسودون طاز، وقاني باي العلائي من سجن الإسكندرية وأنزلوهم في البحر المالح، وساروا بهم إلى البلاد الشامية، فحبس نوروز وقاني باي في قلعة الصبيبة من عمل دمشق، وحبس جكم في حصن الأكراد من عمل طرابلس، وحبس سودون طاز في قلعة المرقب، ولم يبق بسجن الإسكندرية من الأمراء غير سودون من زاده، وتمربغا المشطوب.
ثم حول جكم بعد مدة إلى قلعة المرقب عند غريمه سودون طاز.

(3/417)


ثم في ثامن عشر شوال خلع السلطان على الأمير بكتمر الركني أمير سلاح باستقراره رأس نوبة الأمراء عوضاً عن نوروز الحافظي، واستقر الأمير تمراز الناصري أمير مجلس عوضه أمير سلاح، واستقر سودون المارداني رأس نوبة النوب أمير مجلس عوضاً عن تمراز، واستقر سودون الحمزاوي رأس نوبة النوب عوضاً عن سودون المارداني، وأخلع السلطان على الأمير طوخ باستقراره خازنداراً عوضاً عن سودون الحمزاوي.
ثم في خامس عشرين ذي القعدة أفرج عن سعد الدين إبراهيم بن غراب وأخيه فخر الدين ماجد، وكان السلطان قبض عليهما من شهر رمضان، وولى وظائفهما جماعة، واستمرا في المصادرة إلى يومنا هذا. وكان الإفراج عنهما بعد ما التزم سعد الدين بن غراب بحمل ألف ألف درهم فضة، وفخر الدين بثلاثمائة ألف درهم، ونقلا إلى السالمي ليستخرج الأموال منهما ثم يقتلهما.
وكان ابن قايماز أهانهما وضرب فخر الدين وأهانه، فلم يعاملهما السالمي بمكروه ولم ينتقم منهما، وخاف سوء العاقبة، فعاملهما من الإحسان والإكرام بما لم يكن يبال أحد. وما زال يسعى في أمرهما حتى نقلا من عنده لبيت شاد الدواوين ناصر الدين محمد بن جلبان الحاجب، وهذا بخلاف ما كانا فعلا مع السالمي، فكان هو المحسن وهم المسيئون.
ثم خلع السلطان على يلبغا السالمي بآستقراره أستاداراً، وعزل ابن قايماز؛ وهذه ولاية يلبغا السالمي الثانية.
ثم في سابع ذي الحجة من سنة خمس وثمانمائة أخرج السلطان الأمير أسنبغا المصارع، والأمير نكباي الأزدمري، وهما من أمراء الطبلخاناه بمصر، إلى دمشق، وإينال المظفري وآخر، وهما من الأمراء العشرات، ورسم للأربعة بإقطاعات هناك، لأمر اقتضى ذلك، فساروا من القاهرة.
فلما كان يوم تاسع عشرين الحجة أغلق المماليك السلطانية باب القصر من قلعة الجبل على من حضر من الأمراء، وعوقوهم بسبب تأخر جوامكهم، فنزل الأمراء من باب السر، ولم يقع كبير أمر. وأمر السلطان ليلبغا السالمي أن ينفق عليهم فنفق عليهم.
ثم في يوم الثلاثاء رابع المحرم من سنة ست وثمانمائة عزل يلبغا السالمي عن الأستادارية، وأعيد إليها ركن الدين عمر بن قايماز، وقبض على السالمي وسلم إليه.
ثم في ثامنه خلع السلطان على الصاحب علم الدين يحيى أبي كم وآستقر في الوزارة ونظر الخاص معا عوضاً عن تاج الدين بن البقري، واستقر ابن البقري على ما بيده من وظيفتي نظر الجيش ونظر ديوان المفرد، فلم يباشر أبو كم الوزر غير ثمانية أيام وهرب واختفى، فأعيد تاج الدين بن البقري إليها. هذا والسالمي في المصادرة.
وفي هذه السنة كان الشراقي العظيم بمصر، وعقبه الغلاء المفرط ثم الوباء، وهذه السنة هي أول سنين الحوادث والمحن التي خرب فيها معظم الديار المصرية وأعمالها، من الشراقي، واختلاف الكلمة، وتغيير الولاة بالأعمال وغيرها. ثم في شهر ربيع الأول كتب بإحضار دقماق نائب حلب. وفيه اختفى الوزير تاج الدين بن البقري، فخلع على سعد الدين بن غراب وآستقر في وظيقتي الأستادارية ونظر الجيش. وصرف ابن قايماز، وخلع على تاج الدين رزق الله وأعيد إلى الوزارة.
وفي خامس صفر كتب باستقرار الأمير آقبغا الجمالي الأطروش في نيابة حلب عوضاً عن دقماق، فلما بلغ دقماق أنه طلب إلى مصر هرب من حلب.
ثم قدم الخبر على السلطان بأن قرايوسف بن قرامحمد قدم إلى دمشق، فأنزله الأمير شيخ المحمودي بدار السعادة وأكرمه.
وكان من خبر قرايوسف أنه حارب السلطان غياث الدين أحمد بن أويس وأخذ منه بغداد. فلما بلغ تيمور ذلك بعث إليه عسكراً، فكسرهم قرايوسف. فجهز إليه تيمور جيشاً ثانياً فهزموه، ففر بأهله وخاصته إلى الرحبة، فلم يمكن منها ونهبته العرب، فسار إلى دمشق، فوافى بها السلطان أحمد بن أويس وقد قدمها أيضاً قبل تاريخه. وأخبر الرسول أيضاً أن قاني باي العلائي هرب من سجن الصبيبة، فتأخر نوروز بالسجن ولم يعرف أين ذهب.
ثم في يوم الثلاثاء خلع السلطان على بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي وآستقر في نظر الخاص عوضاً عن ابن البقري، وهذه أول ولاية الصاحب بدر الدين ابن نصر الله للوظائف الجليلة.
ثم في عاشره اختفى الوزير تاج الدين، وفي ثالث عشره أعيد آبنالبقري للوزر على عادته ونظر الخاص، وصرف آبن نصر الله، هذا والموت فاش بين الناس وأكثر من كان يموت الفقراء من الجوع.

(3/418)