أخي الأكبر مني قاد سيارة والدي خمس مرات، وفي كل مرة يقودها يتسبب بحادث لها، وحين طلب مفتاحها للمرة السادسة من أبي أعطاه إياها!!!.
وجهة نظر أبي أن أخي شاب خلوق وطيب القلب، وأنه من حقه أن يأخذ فرصته في الحياة ليصبح إنسانا أفضل، أضف لذلك أننا كعائلة لدينا أعداء كثر يحسدوننا، ويتربصون بنا، ولا وقت لدينا الآن كأسرة لمحاسبة أخي أو الدخول في مهاترات من أجل قيادة سيارة، خاصة أن امتحاناتنا المدرسية على الأبواب.
من حقك القول عن أبي يُشك في أهليته كربّ أسرة كونه يستهتر بأرواح الناس وأولهم أبناؤه، بتركه أخي يقود سيارة وهو ليس بسائق.
ومن حقك القول عن أخي وقح وبليد كونه لا يتعلم من تجاربه الماضية في قيادة السيارات، ومع ذلك يصرّ على قيادة سيارة والدي وافتعال المزيد من الحوادث......
لكن قبل أن تقول هذا أو ذاك دعني أخبرك أن القصة من نسج خيالي...
لا يوجد إنسان عاقل يعطي ابنه مفاتيح سيارته وهو على يقين _ حسب تجارب كثيرة سابقة _ أنه لا يحسن القيادة، لأن ذلك فيه مخاطرة قد تهدد عشرات الأرواح، وخسائر مادية بالملايين.
بالمقابل هناك أناس تظن نفسها _ أو تظنها أنت _ عاقلة ترضى بتسليم دفة قيادة أعظم ثورة في التاريخ لحفنة من الفاشلين والمراهقين والسذج، رغم أن ضريبة قيادة هؤلاء هي ملايين الأرواح والأعراض، وفساد بالدنيا والدين لا يعلمه إلا الله!!!!.
ومن يسكت عن ذلك يفعله إما بسبب الانتفاع المادي الذي يحققه هؤلاء الأشخاص لأنفسهم ودوائرهم الضيقة، أو لسيطرة العاطفة وطغيانها على الشرع والعقل.
كون أن فلانا من الناس يحفظ القرآن، أو له سابقة حسنة، أو أنك تحبه، لا يعني أنه أهلا لأن يقود، وإلا لما منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر من القيادة، واستعمل عمرو بن العاص.
وحين أطالب أنا اليوم بعزل ومحاسبة قيادات الفصائل الثورية التي سقطت أمام بغي الجولاني، أو هجمات النظام، واستبدالها بمن أثبت كفاءته في الصمود أمامهما، فليس ذلك لأني أحب فلانا وأكره فلان، بل لأني لا أجد أي دليل شرعي أو عقلي أو مادي، لاستمرار بقاء هؤلاء الفشلة في مناصبهم بعد إخفاقاتهم المتكررة التي ندفع ضريبتها من دمائنا وأعراضنا وأراضينا نحن لا هم...
كلنا يعرف أن من يكونون قادة لا يسكنون الخيام، ولا يشغلون بالهم بتوفير لقمة العيش، أو البحث عن فرصة عمل، أما الشقاء والفقر وسكنى الخيم والبيوت المهدومة فهو حصرا للعناصر والمدنيين، الذين نكبتهم عبقرية القادة الأفذاذ، ومع ذلك يصرّ المنكوبون بشكل شرس على بقاء هؤلاء القادة واستمرارهم بمسيرة الفشل، بتناقض عجيب غير مفهوم!!
كنا نسخر من عبارة "الأسد للأبد" وندعي أننا قمنا بالثورة حتى نختار من يحكمنا بإرادتنا عبر الدستور المتفق عليه، ولمدة يحددها هذا الدستور مع حفظ حقنا بالتعبير، والقيام بدور الرقابة الشعبية على الحاكم....
لكننا بالثورة صنعنا لأنفسنا ألف أسد، وجعلناهم قادة علينا للأبد، وحرّمنا على أنفسنا أي انتقاد لهم،ورفعناهم فوق رتبة الأنبياء فهم يسألون ولا يُسأَلون، وإن قتلونا وشردونا وباعونا فذاك أحب على قلبنا من العسل!!!
وإن تجرأ أحدنا على النقد أو التساؤل واجهناه بالإرهاب الفكري، وغمزنا ولمزنا به، ورميناه بأنه مجرد منظّر لا عمل له ولا شغل، وأن القيادة الحكيمة تعرف ما لا نعرفه، وتدرك ما لا ندركه، ولا يجب علينا أن نتعب عقولنا بالتفكير فهناك من يفكر عنا.... هذا السلوك بماذا يذكرنا يا ترى؟؟؟
لو أن أحدا انتقد القيادة الحكيمة لسقنا له الأدلة فرادى وجماعات عن وجوب السمع والطاعة للأمير في محاكاة لمشايخ الجامية.
لو تجرأ وسأل أين تذهب مقدرات الثورة وأموالها لأجبناه مباشرة أنها في أيدٍ أمينة، كما أجاب حافظ الأسد حين سُئل عن النفط السوري.
لو أن شخصا جمع شجاعة الدنيا وتكلم بما يراه الجميع من أن المعركة التي نخوضها الآن بغير محلها للأسباب المنطقية التالية وراح يذكر ما نعرفه كلنا، لاتهمناه بالعمالة والتخذيل وتثبيط الإخوة.
لو طالب بمحاسبة المقصرين والمفسدين والمتخاذلين، لعارضنا صائحين ليس الوقت الآن للمحاسبة، فالمعركة قائمة، و "لا صوت يعلو على صوت المعركة" مستذكرين شعار جمال عبد الناصر الذي برر عبره إجرامه بحق معارضيه.
إن سأل أحدنا ما أسباب خسارتنا للمعركة الفلانية فالجواب جاهز، المؤامرات الخارجية علينا كوننا شعب الله المختار، الدعم الخارجي للعدو، الأحوال الجوية، الذنوب، الابتلاء والتمحيص، الدورة الشهرية، أي شيء يخطر ببالك، إلا...... القيادات، فهم على حق دائما وإن فشلوا مليون مرة، وضربوا ظهرك وأخذوا مالك، وهتكوا عرضك بخيانتهم، وسلموا أرضك بغبائهم، وقتلوك بعجزهم وفشلهم....
والذي لا أجد له تفسيرا، أن يظن البعض أن من تخاذل عن قتال الدواعش، وأسقط حلب بخيانته وبغيه، وتحالف مع الجولاني، وعادى الحلفاء بصبيانيته، وأدخلنا بمعارك دونكيشوتية لا طائل منها بدعوى تحكيم الشريعة، والتغلب، وغير ذلك.... سيكونون هم أنفسهم من سيجلب لنا النصر المؤزر!!!! فليت شعري ما تركنا للمجانين!!!
لذلك علينا أن نعي أن الإنس والجن، لو حشرت لنا، وأحضر أهل بدر ليقاتلوا معنا، لن ننتصر طالما أن القيادات الفاشلة المهترئة بقيت كما هي، وكل معركة مهما استبسلنا فيها، وأخلصنا النية لله، وكنا فيها أصحاب حق، سنخسرها طالما أننا لم نقم بواجب تولية القوي الأمين، والحجر على السفهاء، ومحاسبة المقصرين، والمفسدين، وتاريخنا يشهد بذلك.
من لا يظن لليوم أن قيادات الثورة السورية بأعمها ليسوا إلا حفنة من المراهقين والسذج والخونة فهو إما مجنون أو خائن ولا أرى له احتمالا ثالثا...
وللأسف أغلب المحسوبين على الثورة يرضون أن يغلقوا عيونهم، ويعطلوا عقولهم، ويسيروا كالقطيع إلى سكين الجزار دون سؤال أو اعتراض، ولو فتحت معهم موضوع عزل القيادات والتمرد على فشلها لأجابوك كمؤيدي بشار "مين رح يحكمنا بعدين!؟" أو يخوفونك بموضوع الفوضى وأن القيادات الحالية على مساوئها أفضل من الثورة عليها، كما يفعل كهنة الأنظمة العميلة حين يخدرون الشعوب بقولهم ولي الأمر على إجرامه وخيانته خير من مصير كسوريا!!!
ووالله ثم والله الفوضى التي تعطيك حرية التحرك والعمل، خير من القيادة التي تكبلك، ثم تسلمك بعجزها أو خيانتها لعدوك.
لذلك أوجب الواجبات اليوم إيقاف هذه المهزلة، ودعوة المقاتلين للتمرد العسكري، والانقلاب على القيادات التي أثبتت فشلها، والالتفاف حول من أثبت نجاحا على الأرض، ولا عزاء للقطيع...
جاد الحق
مقالات جاد الحق
مدونة مقالات جاد الحق تهتم بالثورة السورية جمعت فيها مقالاتي التي كتبتها بمختلف المجالات والتي نشرت على العديد من المنصات الإعلامية الثورية السورية على مدار ثلاثة أعوام تقريبا أتمنى أن تنالوا المتعة والفائدة بمطالعة ما كتبته وأنوه أن المقالات غير مرتبة حسب تاريخ النشر
فيسبوك https://www.facebook.com/jadalhaqarticles/
تلجرام http://telegram.me/jadalhaqarticles
تويتر https://twitter.com/freetalker2017?s=09
14/01/2019
عفوا.... سأخون القطيع
05/01/2019
اعتراف حول الثقافة والمثقفين
كلما تقدمت بالعمر أكثر أحببت الثقافة أكثر، وكرهت المثقفين أكثر وأكثر....
البعض يظن أنه ليصبح مثقفا فلا بد من تقطيب دائم لوجهه، مع عبوس كالح، والنظر للناس ( الغوغاء ) نظرة اشمئزاز فوقية، والحكي معهم بلهجة الأب الذي عركته الحياة، مع أبنائه السذج الأغرار.
هذا بالنسبة للغة جسد المثقف وإيماآته وسمته، أما بالنسبة لمزاجه، فهو معكر دائما بسبب انشغاله بالقضايا المصيرية، فلا وقت لديه لرحلة لأنها مضيعة للوقت، أو مشاهدة فلم كرتون فكاهي لأنه استخفاف بعقله وقيمته، ولا يصلح مزاجه إلا احتساء ( احتساء وليس شرب ) القهوة السوداء، مع ديوان لمحمود درويش، أو نزار قباني، على أنغام أغنية لفيروز، أو زياد الرحباني، وتوثيق لذلك بعشرات الصور على وسائل التواصل، لينقل لنا هذا الجو المفتعل الذي يريد صاحبه إقناعنا به أنه مثقف من الطراز الرفيع، بينما نحن مجموعات من الأوباش الذين لا يمثلون إلا ضجيجا حياتيا، وتلوثا فكريا، يعكر صفو الأستاذ المثقف.....
مع الأستاذ مثقف أنت في توفز مستمر، واستنفار دائم، فأي نَفَس منك هو ازدراء له، وأي تعليق لك هو تهكم عليه، وأي رأي لديك هو مناكفة مقصودة، لماذا؟ لأنه بالطبع مركز الكون، وظل الإله في الأرض، ففي الوقت الذي تجد أنت فيه طعم الحياة ببساطتها وعفويتها، يركز هو بذكائه اللا محدود، وتميزه الغير طبيعي، على تلك التفاصيل التي تولّد لك آلاف الأسئلة المستهلكة للعمر في الركض اللاهث بحثا عن إجابات لها..... ويمضي العمر عليك مستمتعا بعفوية حياتك هانئا فيها، وعليه متحرقا في لظى الحيرة، هائما في متاهاتها.... لا تفرح كثيرا فالمتنبي يقول:
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ
وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ
طبعا أنت أخو الجهالة المتنعم، وهو ذو العقل المتألّم :) .
هذا المظهر المقيد الذي يحشر صاحبه نفسه في زنزانته، يجني عليه من الويلات ما لا يطاق، فيكفيه أنه يحرمه الاستمتاع بعفوية الحياة، وبساطتها التي تحوي سر جمالها، فبسبب شرنقة ما يظنه ثقافة، والتي أحاط نفسه بها، يكون قد وضع ألف حاجز بين روحه وأرواح الآخرين، لذلك ترى نفسه سجينة عالم زجاجي بارد، لا وجود فيه لدفء المشاعر الإنسانية، ولا حميمية التواصل البشري!!!
المثقف الحقيقي ليس من يحفظ طول نهر الأمازون، ويزدري الناس، ويقرأ أشعار محمود درويش، محتسيا قهوته السوداء، في طقوس يحاكي بها صورة المثقف النمطية التي صنعها الإعلام وفرضها علينا، وتفصله عن هموم مجتمعه وحياته اليومية، بل هو من يجعل ثقافته وعلمه خادما لمن حوله من بسطاء الناس وعوامهم، الذين لم يسعفهم القدر بأن يحظوا بهذه النعمة.
المثقف من يرى في ثقافته غديرا لتغذية روحه بأحسن الأخلاق وأفضلها، بعيدا عن التشدق والتقعر والعبوس مع البسطاء.
المثقف هو من تعطيه ثقافته ألف سبب آخر ليبتسم في وجه الحياة، هو من يرى في ثقافته منظارا يبصر فيه تفاصيل عفوية للكون تجعل منه مكانا أفضل!!
نعم يحتاج كلنا الفرار من صخب الحياة وضغوطاتها لجو نراه يريحنا، لكن لنسأل أنفسنا بأمانة هل هذا الجو قد صنعناه نحن لأنفسنا، أم اقتبسناه بتقليد غير واعي لمن نظنهم مثقفين!!؟؟
أود أن أختم هذه الخاطرة باعتراف بسيط.....
لي مع الكتب وما يتعلق بها هوى قديم، وعشقي للبرامج الوثائقية لا حدود له، الكتابة والتدوين صمام أمان لعقلي من الجنون، والسينما أجدها فن راق جدا، يكاد يكون أفضل ما أنتجته البشرية، لكن....
وبصراحة مطلقة..... لا أحب أشعار نزار قباني، ومحمود درويش، ولا أجد أي نشوة في صوت فيروز وأغانيها، ولا أطيق احتساء القهوة ولا حتى شربها، لأنها ببساطة شديدة، مرة الطعم!!!
أعشق كتابات أحمد خالد وتوفيق، وأتلذذ بأشعار فاروق جويدة وأحمد مطر والمتنبي، ومشروبي المفضل هو الشاي الأخضر.
أفضل الأفلام الفكاهية والمغامراتية على الأفلام الفلسفية الجدلية، وأحب الشعر البسيط الواضح الموزون، على ذلك المعقد المغرق بالرمزية والمتحرر من الأوزان الشعرية.
في التعاملات الاجتماعية تعجبني العفوية وأكره التعقيد، ويميل قلبي لمن هو بسيط وواضح، وأمقت المُبهَم المتكلِّف.
فهل يا ترى سيقبلني أعضاء نادي الثقافة بينهم ولو عضوا نصيرا، أم سيرفضونني لأني لا أفهم في التأثيرات الكوزموبوليتانية لإرهاصات عصر ما بعد الحداثة!!!؟؟؟
جاد الحق
17/12/2018
رفض المجتمع لك البداية، وليست النهاية!
لا يبحث الإنسان في علاقاته الاجتماعية عما ينقصه، بقدر ما يبحث عما يتوافق مع نفسيته وقيمه، فصاحب الأخلاق والقضية يبحث عمن يشابهه، وصاحب النفس الدنية وحب المال يبحث أيضا عمن يشاركه هواه.
بإدراك هذه المفاهيم يقل تأثرنا بالصدمات العرضية التي تواجهنا أثناء البحث عن أشباهنا، ويتحول حزننا على فقد شخص ما، أو مفارقة مجتمع، من حزن إلى عرس، وفي ذلك يستحضرني نماذج لرسل الله أحب سردها لتقريب الفكرة أكثر:
1) يوسف عليه الصلاة والسلام، الطفل المدلل من أبيه النبي يعقوب، المكروه من إخوته حسدا وغيرة، تحول بمكيدة إخوته من طفل سعيد ينشأ بين حب والديه وحنانهما، إلى طفل منبوذ، مرمي في بئر قد يهلك فيه، حتى منّ الله عليه بإنقاذ حياته بقافلة جعلته عبدا مملوكا بعد أن كان حرّا، وليس ذلك فحسب بل باعوه بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين!!!
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام أجمعين، كرهه إخوته دون ذنب منه، وتآمروا عليه، ويوم بيع ممن أسره، كان الناس في بيعه وشرائه من الزاهدين بثمنه!
لكن حين قيض الله له من يشتريه، ويستشعر عظمته وخطورة قدره، فيقول لزوجته أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، كانت النتيجة أن يوسف لم ينفعهما فقط، بل نفع مصر كلها، وأنقذها من كارثة اقتصادية محققة، ومجاعة مهلكة، كادت أن تفتك بمصر وشعبها.
2) كان موسى عليه الصلاة والسلام ابنا متبنيا لفرعون، مما جعل موسى يربى على أنه أمير، وبالتالي نال ما يناله الأمراء المنعمين المترفين من الدنيا، لكن نفس موسى الرسولية لم ترد من الدنيا أكثر مما يعينها على مهمتها العظيمة ( تحرير شعب بني إسرائيل )، لذلك لم يجد هذا الأمير صعوبة في اتخاذ القرار بترك كل ما لديه، وخسارة كل المكتسبات المادية، في سبيل الفرار بنفسه ودينه وحريته خارج أراضي الطاغية، والذهاب لمدين ليعيش فيها غريبا وحيدا فقيرا، لكن على الأقل حرّا، ثم رضي وهو سليل بيت الملك بمصاهرة عائلة متواضعة الإمكانات المادية، وتعيش على رعي الأغنام، لكنها عائلة عظيمة النفس، شريفة المشرب، والدليل على ذلك أن البنت وأبيها، اكتشفا بفِراستهما أن موسى الفقير الغريب ليس شخصا عاديا، بل هو شاب بإمكانات عظيمة، ويوما ما سينال من الدنيا ما يليق بإمكاناته، فاتخذوا قرارهم بناءا على هذا التقييم، وكانت النتيجة أنهم ظفروا بكليم الله، ومحرر بني إسرائيل، والرسول العظيم من أولي العزم، صهرا لهم هم، من دون الناس أجمع.
3) سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وُلِدَ يتيما، وكان من عادة أهل مكة أن يرضعوا أبناءهم خارجها، فكانت النساء المرضعات تقدم من البادية لمكة حتى تأخذ الأطفال الرضع، ويتسابقن على أخذ الرضع من أبناء الشخصيات الغنية والمهمة في مكة، وكلهن رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضيع اليتيم فأعرضن عنه زهدا فيه!!! فهن يرجون إحسان والد الرضيع وكرمه وأمواله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا أب له، فتركنه ترفعا عن يتمه وقلّة ذات يد أمه وجده، مع أنه الرحمة الموهوبة للعالمين، وأعز خلق الله عنده، حتى جاءت حليمة صاحبة الحظ العظيم التي أنهكها وزوجها الفقر والضنك، ولم تجد بمكة رضيعا تأخذه، فقررت حليمة ألا تعود خالية اليد، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرة، وأصبحت أما له بالرضاعة، وكلنا يعلم ما حصل لاحقا من أحداث وكرامات، حوّلت حليمة من امرأة بدوية في صحراء مكة كانت لتعيش وتموت كحال صديقاتها المرضعات دون أن نسمع بأي منهن، حولتها إلى أم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وعرفنا باسمها وقصتها مع اليتيم العظيم بعد 14 قرنا من وفاتها...
فمن هو الخاسر حقا؟ هل هو يوسف، أم من رماه بالجب، أم من باعه زهدا فيه، أم من أعرض عن شرائه، أم من اشتراه بدراهم معدودة؟
هل خسر موسى بمفارقته طبقة الأشراف والأغنياء في مصر يوم فرّ بدينه وحريته من طاغيتها ليعيش غريبا فقيرا بعد أن كان أميرا مطاعا، أم أن هذه الطبقة هي التي خسرت موسى؟
ماذا حول النساء المرضعات اللواتي أعرضن عن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تكبرا على يتمه وفقره، وأخذته حليمة لأنها لم تجد غيره، من خسر ومن ربح؟
ثق تماما أنك إن كنت صاحب همّة، وأخذت بأسباب النجاح، فإن القدر سيكون خير حليف لك، وأن من تركك لضعف في دنياك قد قدم لك خدمة العمر، فهو ببساطة يخبرك بلسان حاله أنك تستحق من هو خير منه، كما يستحق هو من دونك، وكلاكما سيجد من يستحقه، وأفضل انتقام تقوم به ضده هو أن تيسر له أسباب لقائه بقرينه، وقرينه سيقوم بالواجب معه على أتم حال.
أما قال الفتى العربيُّ يوما
شبيه الشيء منجذبٌ إليهِ!؟
جاد الحق
11/11/2018
ماهي أسباب اختلافات الفصائل في الثورة السورية؟
الاختلاف هو المحرك الأول للبشر في مجالات الإبداع والحضارة، فلو اتفقنا في كل شيء لتجمد إنتاجنا عند سقف معين ولأصبحت الحياة بعدها نسخة رتيبة متكررة من بعضها.
ثم تأتي الحقيقة التي لا مفرّ منها إلا بالتسليم لها، وهي أن الاختلاف بين البشر سنّة كونية لا ترتفع، ولا تنتهي، حتى فناء الدنيا، واقرأ إن شئت قول الله في القرآن: " ولا يزالون مختلفين ".
هناك خمس أنواع للخلافات الشائعة متعارف عليها عالميا:
1) أسباب شخصية:
تحكمها العواطف والمطامع والظروف الخاصة، والبيئة المحيطة، والتجارب الماضية لكل شخص.
2) القناعات:
كل شخص لديه مجموعة من الدوافع والقيم تكوّن له قناعات وأساسيات ينطلق منها في الحياة، ويصنع منها لنفسه أهدافا وخططا، تباين القناعات سيؤدي لتعارض الخطط والأهداف بين البشر، وبالتالي حصول الاختلافات.
3) سوء المعلومات:
سواءا كان ذلك بتلقيها من مصدرها، كأن تكون غير صحيحة، أو بمعالجتها بعد التلقي، كالفهم الخاطئ القائم على افتراضات مسبقة للتفسير.
4) تداخل الصلاحيات:
عدم تحديد واجبات وحقوق كل فرد بشكل واضح يؤدي لحصول حالة من التعدي بين الناس على بعضهم، وكل طرف يظن نفسه صاحب الحق ويقوم بواجبه، أو يطالب بما يستحقه، وهنا يظهر الاختلاف.
5) البيئة الضاغطة:
الظروف الخارجية، والأشخاص الذين هم بعيدون عن المشهد اليومي بإمكانهم التأثير علينا بما يهزّ استقرارنا النفسي، وسلامنا الداخلي، فيصنعون لنا حالة من التوتر، تعبر عن نفسها بخلق مشاكل واختلافات مع الآخرين.
ما علاقة الكلام السابق بالثورة السورية؟
لو أسقطنا ما سبق من تحليل لأسباب الخلافات على خلافات الفصائل السورية لوجدنا التالي:
بإمكاننا استبعاد سبب اختلاف القناعات، لأن الاختلاف الأيديولوجي تمايز عن بعضه من زمن، كداعش وقسد، وما تبقى اليوم من فصائل إلى حد ما تشبه بعضها بشكل كبير من جهة الأهداف والوسائل، فالكل يعلم السقف الذي لن يسمح له المجتمع الدولي بتجاوزه، والكل يسعى لذلك السقف بالطرق نفسها من التفاوض مع الدول، وتقديم التنازلات مقابل تحصيل المكتسبات، مثل ما يسمى هيئة تحرير الشام.
فبعيدا عن الخطاب الديني الإعلامي الموجه للعناصر كدافع لهم لتنفيذ الخطط المتفق عليها مع الدول، ستجد أنها طبقت على الأرض كل الاتفاقات الدولية بحذافيرها، والتزمت بحرفيتها، وإن كان ما يبثه إعلامها خلاف ذلك.
فالمحصلة جميع ما تبقى من فصائل حفظت الدرس جيدا، وكل منها يطبقه حسب مقدرته العقلية، والتنفيذية على الأرض.
بإمكاننا أيضا استبعاد سوء المعلومات، لأن كل الفصائل تعرف بعضها بشكل أكثر من جيد، نظرا لتجاورها الجغرافي، ولقدم التعامل بينها، ولأن قياداتها من أول الثورة للآن ما تغيروا، يعني الكل حفظ الكل وفهمه جيدا ويعرف بشكل ممتاز طريقة تفكيره مما يؤهله للتنبؤ المسبق بردات الفعل والتصرفات للطرف الآخر.
يبقى لدينا من أسباب الخلافات:
الأسباب الشخصية، تداخل الصلاحيات، البيئة الضاغطة.
*) الأسباب الشخصية:
عمل البعث طوال أكثر من خمسين عاما من اغتصابه السلطة على القضاء على أي نوع من العمل الجماعي في سوريا، وكرّس في عقليتنا نظرية الأب القائد الرمز الواحد الذي لا يُرجع القول لديه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولن تستطيع الثورة أن تغسل ببضع أشهر وسنوات، ما تم تغذيته لعقولنا ووعينا عشرات السنين، وهذا ما أدى لتضخم الأنا عند البعض من المهمشين اجتماعيا قبل الثورة، ثم فجأة وجدوا أنفسهم يستلمون السلطة التي طالما اشتهوها بعطش شديد!
ولذلك نفهم مشكلة عض القادات بالأنياب والنواجذ على المناصب، وعدم اجتماعهم على مشروع واحد، أو رمز جامع، ولا تُحَل هذه المعضلة إلا بإقصاء حقيقي لأصحاب الأنا المتضخمة.
*) تداخل الصلاحيات:
المنطق يقول أن كل شخص أو مؤسسة أو فصيل له اختصاصه، وقد علم كل أناس مشربهم، لذلك يفترض كثورة أن نسير بمجموع الجهود ( حالة مثالية ) أما الحقيقة أننا بسبب التداخل والفوضى نسير بفرق الجهود ( حالة واقعية ).
في الحالة المثالية نحتاج للجميع تحت مظلّة واحدة من الأهداف والقيادة، حينها نجد أن الجيش الحر سيأخذ دور المؤسسة الشرعية على الأرض والتي تمثل الجزء المسلح من الثورة، بينما مثلا السلفية الجهادية ستكون الباب الخلفي للتفاوض مع الدول عبر الضغط عليها بالتهديد بورقة الإرهاب والأسلمة والجهاد العالمي ( وهذا أساسا ما تفعله الأنظمة السياسية مع بعضها أو مع شعوبها ).
طبعا كلامنا السابق عن الحالة المثالية، أما في حالة الفوضى الواقعية وتداخل الصلاحيات، في ظل ادعاء الشرعية من كل طرف، مقابل سلبها من الآخر، فلا شك أن الصراع والاختلاف سيكون سيد الموقف، إذن الحل هو بالمشروع الجامع، والقيادة الموحدة التي تحدد صلاحيات الجميع.
*) البيئة الضاغطة:
تضغط المخابرات الدولية على فصائل الجيش الحر عبر الدعم، وأيضا تضغط المخابرات على الفصائل المؤدلجة عبر المنظرين والإعلام الموجه لقواعد هذه الفصائل.
هذا الضغط الخارجي يولّد احتقانا عند الجهة المستَهدَفة تفرغه باختلاق المشكلة مع الطرف المقابل كنوع من الهروب للأمام، لذلك بناء المرجعيات الداخلية والتمويل الذاتي سيحمينا من مشاكل البيئة الخارجية الضاغطة.
الثورات لحظات فارقة بتاريخ الشعوب، وهي أشبه باللقاح الذاتي للشعب ضد هجمات فيروسات وجراثيم طاعون الاستبداد، وكلنا نعرف أن للقاح أعراضا جانبية تشبه في بعضها أعراض المرض لكنها أخف، ثم سرعان ما ينهض الجسم بمناعة أقوى من قبل، ولذلك ما نراه من أخطاء ومشاكل في الثورة هو أمر طبيعي _ رغم قسوته _ وأهون بكثر من ضريبة البقاء تحت نير الاحتلال الأسدي.
جاد الحق