28/04/2013
كنان محمد صقر

إلى قمة النظام الدولي... وقلب محور «المتوسط- بكين»

تعرّف الجغرافية السياسية الإقليم الجيواستراتيجي بأنه إقليم يملك الحجم الكافي حتى يكتسب قدرة التأثير العالمي، فإستراتيجية العصر الحاضر إستراتيجية تتفاعل عالمياً وليس إقليمياً، وبالتالي فإن الأقاليم الإستراتيجية هي التعبير عن العلاقات المتداخلة بين المساحات الكبرى في العالم فيما يختص بالموقع والثقافة والحركة وتوجيه التجارة وحركة التيارات الإيديولوجية وضوابطها. ورغم أن هذا الإقليم قد يغطي مساحة هائلة من سطح الأرض تتجاوز حدود القارات وقد تضم أقاليم متعددة ومتباينة في ملامحها الطبيعية والبشرية إضافة إلى عدد كبير من الدول، ولكنه في الحقيقة إقليم من نوع خاص يملك ظاهرة مشتركة معينة تجمع شتاته ويمكن تتبعها في كل أطرافه، فرغم كونه إقليماً متعدد الظواهر والتكوين الطبيعي والبشري، إلا أنه إقليم واحد في الظاهرة التي وحدته، فالسيطرة على الممرات البرية والمائية والتحكم فيها في البر والبحر مسألة هامة في توحيد الإقليم الإستراتيجي. أما الأقاليم الجيوبولتيكية فهي أقسام صغرى للأقاليم الجيواستراتيجية تنحدر مباشرة من الأقاليم الجغرافية ولها صلات وثيقة بشخصية الإقليم الجغرافي أرضاً وسكاناً وما يتضمنه هذا ال

 

سورية جيوبولتيك الفصل ونقطة البداية
ليس من باب المبالغة أن تكون الأزمة في سورية واستعصاء إسقاط الدولة فيها، نتيجة لممانعة الشعب والقيادة والجيش العربي السوري، هي الساحة التي ترجمت هذا الكلام، فسورية هي الإقليم الجيوبولتيكي الأهم في الصراع عبر تحكمها بعاملين غاية في الأهمية:
الأول: ما تم اكتشافه منذ سنوات وبات اليوم من باب المسلمات من حيث الكميات الهائلة من النفط والغاز الموجودة في شرق المتوسط وذروتها في الشواطئ السورية، والتي تحدث عنها مؤخراً وبالتفصيل الباحث السوري الدكتور عماد فوزي شعيبي رئيس «مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية» في لقاء عبر قناة «الميادين» الفضائية.
والثاني: وهو الجغرافية السورية والموقع الهام في «حرب» مد شبكات النفط والغاز، وعملية نقل الطاقة.
ومن المعلوم أن النقطتين هما عقدة ومحرك الصراع والتنافس الدولي اليوم.
يترجم هذا الكلام عملياً بالعودة إلى أن الحرب على موقع سورية الجيوبولتيكي ترجع إلى ما كشفه «المركز العربي الأميركي» من أن العروض المغرية كانت تنهال على سورية وقيادتها منذ النصف الثاني من عام 2010، عبر مسؤولون أميركيون إضافة إلى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، للحصول على الموافقة السورية بتمرير خط أنابيب لنقل الغاز القطري عبر أراضيها ومن ثم تصديره لأوروبا عبر تركيا، والهدف منه إضافة إلى فكرة مشروع خط «نابوكو» القادم من منطقة بحر قزوين إلى تركيا فأوروبا، هو تحييد النفوذ الاقتصادي لروسيا وخفض اعتماد أوروبا عليها في مجال الطاقة.
وأكد المركز أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري كشف حديثاً عن محاولته بداية عام 2011، إقناع الرئيس بشار الأسد تغيير مواقفه وتليين الوضع «القابل للانفجار» آنذاك، عبر موافقة سورية على عدة شروط أهمها يتعلق بتمرير الغاز القطري وتمرير أنابيب لنقل المياه التركية من سد «أتاتورك» إلى إسرائيل، وبالطبع فك ارتباط سورية بالمقاومة وإيران وروسيا.
إذاً كان لزاماً على أميركا أمام عامل الوقت الضاغط مع الصعود السريع لروسيا واقتراب الرئيس فلاديمير بوتين من تحقيق إعادة تموضع بلاده في مكانها العالمي الطبيعي، إضافة إلى دور العملاق الصيني وتنامي دور تكتلات لدول كبرى على رأسها «بريكس»، ستلعب الدور الأكبر في هذا النظام العالمي ولا ينقصها سوى إمدادات الطاقة عبر حرب نقل النفط والغاز داخل الإقليم. لذا كان لزاماً على الولايات المتحدة تطبيق نظريتها «الفوضى الخلاقة» وإطلاق متوالية إسقاط الدول القومية في المنطقة.
بوادر ومؤشرات سقوط المشروع الأميركي
خلافاً للحسابات الأميركية فسقوط مشروعها في المنطقة جاء أسرع من المتوقع، فعملية ما سموه «تعويم التيار الإسلامي المعتدل» عبر إيصال الإخوان المسلمين إلى السلطة بعد إسقاط الدول القومية في المنطقة، فشلت فشلاً ذريعاً، فالإخوان فشلوا بتحقيق أي نوع من الاستقرار، ولعل ما تشهده مصر اليوم أكبر دليل على ذلك، والأخطر أن المنطقة باتت مفتوحة لمزيد من التشدد والتطرف ومزيد من الإرهاب بازدياد نشاط الجماعات الإرهابية التكفيرية المرتبطة بتنظيم القاعدة من أفغانستان إلى المغرب العربي.
ولكن قبل هذا المؤشر الذي جاء من عمق المشروع الأميركي كانت روسيا استبقت وعجلت في سقوطه من خلال إفراغه من هدفه الحقيقي «محاصرة روسيا»، عبر قيامها بعملين استباقيين شكلا أول المسامير في نعش المشروع:
الأول: بدأ منذ سنوات وبنظرة إستراتيجية عبر قيام روسيا بمد خطي أنابيب «السيل الشمالي والسيل الجنوبي»، لمد أوروبا وعلى رأسها ألمانيا بالغاز الروسي، كما قامت بشراء 80% من الغاز التركمانستاني لعشر سنوات قادمة وبالتالي أجهضت فكرة مد خط «نابوكو» لمحاولة تخفيض الاعتمادية الأوروبية على الغاز الروسي.
الثاني: وهو المؤشر القريب، فكان بعد عودة الرئيس بوتين إلى الكرملين لولاية رئاسية جديدة العام الماضي، وقيامه بأول زيارة خارجية في ولايته –ومن المعلوم أهمية ومدلولات الزيارة الخارجية الأولى للرئيس في العلاقات الدولية- وكانت لألمانيا العملاق الاقتصادي الذي سئم من تحمل أعباء وأزمات منطقة اليورو المتافقمة، وبالتالي فرصة إعادة المجد الألماني عبر الغاز الروسي.
المؤشر الأهم في سقوط المشروع جاء من منطقتنا نفسها مترتباً على عدم قدرة نظام الإخوان تأمين الاستقرار المطلوب، وبقاء المحيط الحيوي للمصالح الأميركية في حالة من عدم الاستقرار مع تكرار تفجير الخط الذي يمد إسرائيل بالغاز المصري عبر سيناء، وبالتالي كان لزاماً عليها تسريع إعلان بدأ التنقيب عن الغاز في المتوسط مقابل حيفا.
 
سورية وإيران تسقطان المشروع الأميركي وتسرعان نضوج ملفات التسوية
شكلت النظرة الإستراتيجية لكل من سورية وإيران والعراق وإدراكهم لنقاط القوة لديهم، طلقة الرحمة التي أعلنت وبشكل نهائي موت المشروع الأميركي لإعادة رسم خريطة المنطقة.
فسورية وإيران كسرتا أي حاجز أو تخوف من المسعى الأميركي لإسقاط الأنظمة، بل على العكس كان العمل على إرساء مزيد من التشبيك الذي سيمتد لعشرات السنوات ليكون عنوان المرحلة القادمة عبر الإعلان عن مشروعين لمد النفط والغاز الإيراني:
الأول: تم التوقيع عليه في تموز 2011 لنقل الغاز الإيراني إلى سورية عبر العراق، والانتقال مؤخراً إلى مرحلة التنفيذ بتمويل هذا الخط بمبلغ 360 مليون دولار عبر الأراضي السورية بمسافة 250 كم، إضافة إلى اتفاق الأطراف الثلاثة السورية العراقية الإيرانية على كميات الغاز للدول العابرة قبل تصديره لأوروبا بواقع 10 ملايين م3/ يوم للعراق، و20 مليون م3/ يوم من الغاز الإيراني لسورية.
الثاني: ولعله المؤشر الأهم عبر الإعلان مؤخراً عن خط أنابيب لنقل النفط والغاز الإيراني إلى باكستان.
ومن هنا تأتي أهمية هذين المشروعين ليس فقط في كسر الحصار الأميركي، بل من إمكانية استكمال المشروع الثاني إلى الهند ومنها إلى الصين، وبالإشارة إلى أن هذين المشروعين يعنيان خطاً واحداً من السواحل السورية إلى الصين، أي إمكانية نقل غاز المتوسط المكتشف مستقبلاً إلى الهند والصين، ما يعني ليس فقط خروج عملاقي بريكس من معضلة تأمين الطاقة الضرورية للصناعة، بل يعيد إحياء ما طرحته سورية منذ سنوات عن فكرة الفضاءات الاقتصادية داخل إقليمنا الجيواستراتيجي، ليكون أولها فضاء (سوري- عراقي- إيراني)، ونجاح وتطور هذا الفضاء يعني بالضرورة الوصول إلى المشروع –الذي عجّل أيضاً بفتح الحرب على سورية- والذي طرحه الرئيس بشار الأسد بربط البحار الخمسة، أو على الأقل الجزء الأكبر منه.
 
الاستقرار عنوان التسوية الروسية الأميركية والهدف تقاسم كعكة المتوسط
من خلال المؤشرات السابقة والتطورات السريعة والمكشوفة المقرونة ببوادر الانسحاب الأميركي من المنطقة بشكل من الأشكال، وطبعاً بعد تقوية إسرائيل ومدها بصفقة أسلحة متطورة بعشرات المليارات، استلزمت زيارة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل للمنطقة لإتمامها، وأيضاً بعد إتمام المصالحة بين إسرائيل وتركيا (عقب الخلاف المزعوم إثر اعتداء القوات الإسرائيلية على ركاب السفينة مافي مرمرة التركية) والتي توسط فيها الرئيس الأميركي باراك أوباما شخصياً، لإعادة الحلف القديم بين الجانبين، والذي يضغط أيضاً عسكريون إسرائيليون على قياداتهم السياسية لإعادته في وجه ما يسمونه «الحلف السوري الإيراني»، وهو ما كشفته صحيفة «صندي تايمز» مؤخراً عن مسعى الجيش الإسرائيلي بالتفاوض مع تركيا لنشر مقاتلات الهجمات الإستراتيجية في القاعدة الجوية «أكينسي» شمال غرب أنقرة.
وأيضاً من خلال كمية النفط والغاز الهائلة المكتشفة في البحر المتوسط والتي تضعه في ثالث احتياطي عالمي بعد روسيا والسعودية، وانطلاق سباق التنقيب والاستكشاف الذي بدأته إسرائيل لتلحقها لبنان معلنة بدأ المسح وانتهاء سورية منه، الأمر الذي يستوجب بالضرورة خلق «استاتيكو» معين يرسي حالة من الاستقرار الضروري لاستخراج ونقل النفط والغاز.
أخيراً: يمكن القول إن ملفات اللقاء المرتقب بين الرئيسين الأميركي والروسي منتصف حزيران المقبل، باتت واضحة وإن العنوان العريض المقروء لهذا اللقاء هو الاعتراف الأميركي بإعلان روسيا فعلياً عودة تموضعها الدولي إلى جانب الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي.
كما أن عنوان اللقاء المعلن هو الاتفاق على آلية إرساء الاستقرار في المنطقة، والمبطن بخريطة تقاسم النفوذ والمصالح فيها، وبالتالي الاتفاق على شكل ومقومات الوضع اللازم لدخول شركات التنقيب التابعة للدول الكبرى المنطقة وفق الحصص المتفق عليها، ولكن مع اقترانها ولأول مرة باعتراف هذا الاجتماع تجاوز فكرة «إسقاط الدول والأنظمة» التي فرضها الصمود السوري والإيراني، لتضع بذلك الدول صاحبة ثروات المنطقة كطرف هام في عملية تقاسم الكعكة، مع امتلاكها الصوت لتضع أولوية مصالحها في حساب الجميع.
أما العنوان الحقيقي لهذا اللقاء هو إدراك روسيا منذ زمن بعيد أن عودة مكانتها الدولية تستدعي بالضرورة عودة تموضعها ودورها بداية داخل الإقليم الجيواستراتيجي الأوراسي، وبالتالي امتلاكها لسياسة تكون فاعلة ومؤثرة على أكبر قدر من مفاتيحه وأقاليمه الجيوبولتيكية المفصلية من ألمانيا إلى سورية وإيران وصولا إلى الهند والصين.
والأهم في العودة الروسية ما قدمه صمود سورية الإقليم القلب في المنطقة، في وجه حرب إسقاط الدولة والجغرافية السورية، الفرصة التي لا يمكن لروسيا أن تضيعها لإدراكها بأن التاريخ لا يمكن أن يعطيها أي فرصة أخرى في حال نجاح المخطط الأميركي الغربي لإعادة تقسيم ورسم المنطقة، وهو الأمر الذي أكده الرئيس الأسد مؤخراً لزواره من الأحزاب الوطنية اللبنانية، موضحاً أن دمشق بالنسبة لروسيا هي كموسكو لأن دمشق هي خط الدفاع الأول عن موسكو، وإن روسيا تدافع عن مصالحها في سورية، مؤكداً أن هذا الدعم ليس منّة من أحد بل يعود إلى صمود الدولة السورية ولو كانت روسيا غير واثقة بصمود سورية لما قدمت لها الدعم.

تعليقات القراء

 (عدد المشاركات 0)

أضف تعليقك

الاسم (*)

البريد الإلكتروني

كاريكاتير

تابعنا على الفيسبوك