ارتدت دمشق يوم أمس ثوبها الأسود مودعة أحد كبار علمائها وشيخها الأكبر العلامة محمد سعيد رمضان البوطي الذي شيع في موكب مهيب تقدمه ممثل رئيس الجمهورية، وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد ومفتي سورية العام أحمد بدر الدين حسون ووزير الإعلام عمران الزعبي، وووري الثرى وحفيده أحمد إلى جانب ضريح صلاح الدين الأيوبي خلف المسجد الأموي بعد أن اغتالته الخميس الماضي أيادي الظلام والتكفير وهو في محراب مسجد الإيمان حيث كان يلقي درسه الأسبوعي لتلامذته الممتدين من المغرب إلى إندونيسيا.
وكان العلامة البوطي قد سبق أن اغتيل عشرات المرات قبل أن يرحل عنا جسدياً حين أفتى شيوخ الظلام بقتله لمواقفه الرافضة للفتنة ولوقوفه إلى جانب شعبه السوري وأيضاً لإسلامه المعتدل والمتنور الذي يرفض كل أنواع التطرف من أي طرف أو دين كان.
ومع رحيل البوطي تكون سورية فقدت واحداً من كبار علماء بلاد الشام الذين جالوا العالم لنشر الإسلام المعتدل وتتلمذ على يديه الآلاف من الشبان والمشايخ العرب وغير العرب فتعلموا منه لغة الحب والتسامح والحوار والمصالحة، كما تعلموا ألا يجوز للمسلم أن يقتل مسلماً كما لا يجوز له أن يقتل أي نفس بشرية فكان رد شيوخ الظلام والحقد والفتنة والتكفير أن اغتالوه في حرم بيت من بيوت اللـه وفي حضرة ملائكة الرحمن.
لم يكن البوطي يوماً يطمح لمنصب أو لجاه، كان من دعاة الإصلاح وعرف بنقده الهادئ وأسلوبه الراقي في تحصيل ما كان يراه حقوق المسلمين وواجب الدولة في منحها.. كان متنوراً في إسلامه وعالماً في سوريته ومقاوماً في فكره، وكان قارئاً جيداً لما يحاك ضد سورية فكان في صفوف من دافع عنها وعن شعبها وهويتها وتاريخها.
رفض البوطي رحمه اللـه كل ما عرض عليه من حراس وسيارات مصفحة بعد التهديدات والفتاوى التي أصدرها شيوخ النفط بحقه كما كان يرفض تفتيش المصلين قبل دخولهم المسجد فكان مؤمناً بقضاء وقدر اللـه وكان مؤمناً بأن ما من مسلم يدنس بيتاً من بيوت اللـه أو يغتال عالماً من علماء الإسلام فجاء القدر ودقت الساعة وانهارت قيم الإسلام حين تجرأ انتحاري ففجر نفسه على بعد أمتار من العلامة ليغتاله ومن كان معه، فصمتت دمشق ومعها كل سورية وبدأت أجراس الكنائس تقرع ومآذن الجوامع تصدح بالتكبير لتنعى فقيد سورية والإسلام العلامة محمد سعيد رمضان البوطي عن عمر يقرب من الـ84 عاماً قضاها في خدمة الإسلام والمسلمين وفي خدمة الحضارة والتاريخ السوري والسوريين أجمعين دون أن يفرق يوماً بين مسلم ومسيحي.
وأمس خرجت دمشق في موكب مهيب لتشييع الشهيد البوطي متحدية الإرهاب والإرهابيين والعالم الذي يقف خلفهم لتصرخ بأعلى صوتها بأنها لن تركع وهي ماضية في مقاومتها لتعيد بناء ما دمره الظلاميون ولتعود أقوى مما كانت، فهذه الشام لمن لا يعرفها فهي بلاد الأنبياء والعلماء وأيضاً بلاد المقاومة والصمود فلن تنالوا منها.
دعوة للعالمين الإسلامي والعربي لإنقاذ سورية
وبعد أداء صلاة الجنازة على الشهيد البوطي وحفيده التي أمها نجله توفيق البوطي، وصف مفتي الجمهورية في كلمة له الشهيد بأنه «علم من أعلام الإسلام».
ووجه حسون في كلمته نداء للعالمين الإسلامي والعربي والقمة العربية التي ستعقد أواخر الشهر الجاري في الدوحة «لإنقاذ سورية من حرب عالمية شنت عليها»، محذراً من أنه «إن سقطت سورية سقطتم جميعاً ولن تكون بعدها قمة ولا قيمة لكم».
وناشد حسون الرئيس بشار الأسد بأن يجعل من دماء العلامة البوطي وحفيده ومن استشهدوا معه وجميع شهداء سورية «فتح باب واسع للمصالحة التي دعا إليها البوطي قبل أسبوع».
كما دعا حسون من حمل السلاح بالعودة لأن «الحقيقة باتت لكم واضحة»، معتبراً أن من اغتالوا البوطي «إنما اغتالوا السلام والإيمان الذي كنتم تنادون به. حرية».
وندد حسون بمن شككوا بمسألة من اغتال البوطي، واتهموا الجيش العربي السوري وقوات الأمن بذلك. وقال: «من اللحظة الأولى تشككون ولكن الخصم بيننا وبينكم اللـه»، معتبراً أن هؤلاء يهدفون من وراء ذلك الاتهام إلى إبقاء نار الحرب مشتعلة، متسائلا:ً لماذا لم يحصل هذا من قبل؟، لماذا لم يهدم مسجد..؟
بدوره تحدث مفتي دمشق عبد الفتاح البزم في كلمة له خلال مراسم التشييع التي شارك فيها حشد غفير من علماء الدين من سورية والعالم الإسلامي عن مناقب الشهيد ومواقفه الشجاعة إلى جانب الحق، داعياً جموع المصلين إلى الابتهال إلى اللـه كي يحقن دماء الأمة ويجمع شملها وينصرها على أعدائها.
وتوجه مفتي دمشق إلى اللـه بالدعاء «أن يجعل في هؤلاء العلماء العاملين الصادقين ما يعود على الأمة بالبركة والخير».
اغتالوا البوطي لأنه لا يعرف إلا الحق والسلم والسلام
من جهته أكد المطران لوقا الخوري النائب البطريركي العام للروم الأرثوذكس في كلمته أن الإرهابيين قتلوا العلامة البوطي لأنه يعلم كلمة الحق ولا يعرف إلا الحق ولأنه أراد أن يجمع بين المسيحية والإسلام، وقال: «العلامة البوطي لم يكن للإسلام فقط بل كان كلمة محبة وسلام ولا يقول إلا كلمة الحق وكلمة السلم والسلام».
وتوجه الخوري إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما قائلاً له: «أقول لأوباما: ليست إسرائيل قوية. نحن الأقوياء بإيماننا ومحبتنا لأرضنا ولو تعطي إسرائيل كل ما عندك من أدوات الحرب فبإيماننا وحبنا لأرضنا لن نسقط أبداً وستبقى سورية مرفوعة الراية في كل مكان وزمان لأنها قوية».
وقدم المطران الخوري العزاء باسم البطريرك يوحنا العاشر اليازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس.
اغتيال البوطي هو قتل للناس
من جانبه قال الشيخ محمد توفيق البوطي نجل الشهيد في كلمته «عزاؤنا أنك مضيت شهيداً على المبادئ التي نذرت حياتك من أجلها ونحن على عهدك يا أبتاه في سبيل الرسالة التي نذرت نفسك لها»، على حين اعتبر الشيخ محمد شريف الصواف المشرف العام على مجمع الشيخ أحمد كفتارو أن اغتيال البوطي هو قتل للناس جميعاً بما كان يحمله من علم ويسعى إلى وضعه بين يدي المسلمين مذكراً بقوله تعالى: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً».
وقال الصواف: «كم سمعت صوتك عالياً بالحق وتنصح عند أصحاب القرار وعند رأس الهرم وأنت تقول الحق ولا تخشى فيه لومة لائم وكم اتهمت وكم قيل عليك بالباطل كل ذلك لأنهم كانوا يرون فيك رمزا للبعد في الرؤية ولاستقرار الرؤية ولدعوة السوريين جميعاً إلى الحق».
وقدم الصواف التعزية لكل السوريين والمسلمين والمسيحيين، داعياً «كل أبناء سورية بدعوة الشهيد التي قالها في خطبته الأخيرة أن عودوا إلى عبودية اللـه والصلح مع اللـه لأن هذا الوطن يستحق منا أن نضحي ونعتذر ونعترف بخطئنا».
إسرائيل وأميركا لم تكونا أقوى من دماء شيخنا
من جهته أكد الشيخ محمد علي التسخيري مستشار قائد الثورة الإسلامية في إيران في كلمته أن فقدان العلامة البوطي خسارة كبرى للأمة الإسلامية جمعاء لأنه عرف الإسلام ديناً وسطياً يقود العالم واغتياله لن يقتل روح المقاومة فينا.
من جانبه أكد الشيخ محمد يزبك من لبنان أن العلامة البوطي لم يكن خسارة لبلاد الشام ودمشق فقط وإنما لكل مسلم ولكل إنسان ولكل ضمير في العالم الذي لا يزال يتذكر «الكلمات النورانية التي أطلقها عند الاعتداء على لبنان وسعي المشروع الصهيوني الأميركي إلى اقتلاع لبنان ثم سورية وكل المقاومين في المنطقة وخصوصاً فلسطين فتلك الكلمات كان لها الدور الفاعل على المقاومين».
وقال يزبك متوجها إلى الشهيد: «كنت ترى أن النصر قادم لا محالة فتحقق وسقط المشروع الصهيوأميركي وعادوا بالمشروع إلى سورية ليدفعونا إلى نسيان فلسطين ولكنك ما زلت تحذر من أولئك وعينك على شعبك ودولتك لتبقى بلاد الشام مقصد العلم وتبقى المخرز القوي في مواجهة أعداء الإنسانية».
وشدد يزبك على أن «إسرائيل وأميركا لم تكونا أقوى من دماء شيخنا التي سقطت من أجل الإسلام وفلسطين والتي سنكمل معها الدرب» داعياً إلى أنه «آن الأوان لأن نجتمع ونتحاور ونتفاهم ونرد الصاع إلى أعداء سورية وأعداء الأمة».
الرد على الجريمة هو تمسك السوريين بالحوار الوطني
وفي تصريحات للصحفيين أثناء مراسم التشييع التي شارك فيها الآلاف حيث حمل الجثمان على الأكف، قال وزير الإعلام إن العلامة البوطي «رجل لا يعوض ولا مثيل له بكل المعاني والمقاييس».
وأشار الزعبي إلى أن جريمة اغتيال العلامة البوطي وعدد من المصلين في جامع الإيمان «تضاف إلى رصيد الإرهابيين الإجرامي والوحشي اللاأخلاقي» لافتاً إلى أنها من جهة أخرى «تضاف إلى رصيد العلامة البوطي والسوريين فخراً واعتزازاً بالشهادة».
ورأى الزعبي أن «الرد الحقيقي على الجريمة هو تمسك السوريين بالحوار الوطني ومحبة بعضهم بعضا للذود عن سورية».