الملاحظ هذه الأيام أن الدول الأوروبية ذات التاريخ الاستعماري الطويل تحاول دون جدوى استعادة أمجادها الاستعمارية في المنطقة العربية، وهو ما يجعلها في وضع المرتبك وحالة من انعدام التوازن يفاقم منها أزماتها الاقتصادية والمالية المتزايدة والمستعصية على الحل نتيجة المتغيرات العالمية، التي تتجلى في صعود وتقدم العديد من دول العالم اقتصادياً وتمكنها من منافسة اقتصادات الدول الغربية في أسواق العالم.
ويتم التعويض عن هذا العجز الأوروبي، والتغطية عليه، بتصعيد الخطاب السياسي العالي النبرة في الأزمة السورية، حيث يرفع المسؤولون الغربيون من سقف مواقفهم الداعية إلى تنحية الرئيس بشار الأسد، وتسليم السلطة إلى القوى الدائرة في فلك سياساتهم، لكنهم في الوقت نفسه يكشفون عن عدم قدرتهم في تحقيق هدفهم المذكور بوساطة قوتهم العسكرية المتجسدة بحلف الناتو، ويدفعون عوضاً عن ذلك بقوى وأطراف مرتبطة بهم للاستمرار في حربهم لاستنزاف الدولة السورية، والعمل على إسقاط نظامها الرافض للهيمنة الغربية، ويطلبون من أنظمة النفط في الخليج دعم هذه القوى بالمال والسلاح، ومن تركيا توفير القاعدة اللوجستية، أي إنهم يغطون على عجزهم في استخدام قوتهم العسكرية لاستعادة سيطرتهم الاستعمارية على الشرق العربي، من خلال سعيهم لإسقاط سورية ودفع الأطراف الموالية لهم لخوض حرب بالوكالة عنهم.
وأكثر من ذلك، فإن الدول الأوروبية بعد أن اكتشفت أخيراً أن أدواتها لا تستطيع تحقيق أهدافها الاستعمارية، وهي تحتاج إلى مؤازرة عسكرية من الخارج، يمتنع حلف الناتو عن تقديمها، لجأت إلى ممارسة الضغط عبر أنظمة الخليج على النظام الأردني لإجباره على الدخول في حرب طاحنة مع سورية، بعد أن تمخض الاندفاع التركي لإقامة منطقة عازلة على الحدود السورية عن إخفاق مدوٍ لعدم توافر تأييد داخلي تركي للتورط في الحرب ضد سورية والخوف من تداعيات ذلك على تركيا نفسها.
والسؤال الذي يُطرح: ما السبب الذي يجعل الدول الأوروبية تبدو ضعيفة وعاجزة عن التدخل العسكري، وفي الوقت نفسه تحاول التغطية على ذلك بدعم الجماعات الموالية لها؟
الجواب على ذلك يتلخص بالآتي:
1- الضعف الاقتصادي والمالي المتزايد الذي تعاني منه الدول الأوروبية نتيجة أزماتها الاقتصادية والمالية البنيوية، واستمرار الجمود الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة وغرقها في الديون السيادية التي تهدد بإفلاسها، ما دفعها إلى تقليص إنفاقها العسكري وخفض عديد قواتها من ناحية، والتبكير بالانسحاب الأحادي من أفغانستان بعد العراق، لعدم القدرة على تحمل كلفة حرب الاستنزاف المستمرة هناك، واستطراداً اتخاذها قراراً بعدم التورط في حرب خارجية لعدم القدرة على توفير أكلافها الباهظة..
2- إن إقدام قوات حلف الناتو على شن الحرب ضد سورية غير مضمونة النتائج، وقد تؤدي إلى إخفاق عسكري، أو الغرق في حرب استنزاف كبيرة، ما سيكون له عواقب وخيمة على دول أوروبا كلها، من الممكن أن تقضي على آخر ما تبقى لها من هيبة وتأثير في الساحة الدولية، عدا احتمال تسريع انهيار المشروع الأوروبي الذي يعاني من التصدع نتيجة أزمة الديون السيادية لبعض دوله.
3- إن أوروبا، رغم عجزها الواضح، تصر على عدم الإقرار بذلك، وترفض التسليم بالحقيقة، وتعمل على استخدام كل ما لديها من أوراق احتياطية في المنطقة، من دول ومنظمات موالية لها، لأجل تعويم مشروعها الاستعماري المتهاوي والمتداعي دولياً، والمهدد بالسقوط في المنطقة نتيجة تنامي قوة حلف دول وقوى المقاومة، الذي تشكل سورية أحد محاوره، ولهذا نجد العواصم الغربية مستنفرة، وتمارس الضغط السياسي المتواصل، وتصب كل جهودها لدعم الجماعات المسلحة، بغية تحقيق هدفها في إسقاط الدولة الوطنية السورية، وهي ترى أن فشلها في ذلك سيسقط آخر رهان لديها على استعادة بعض من ماضيها الاستعماري في الشرق العربي، ويجعلها تفقد أكثر فأكثر المزيد من القدرة على التأثير في السياسة الدولية لمصلحة قوى ودول صاعدة اقتصادياً وعسكرياً (مجموعة البريكس).
من هنا فإذا كانت القوة الاقتصادية تشكل أساس القوة العسكرية، وبالتالي القدرة على التأثير في الساحة الدولية، فإنه من البديهي القول، إن أوروبا العجوز التي تراجع دورها الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة الدور الأميركي، قد باتت أكثر عجزاً مع انفجار أزماتها الاقتصادية والمالية، وإفلاس بعض الدول الأوروبية وفشل حربي العراق وأفغانستان.