تبنى السياسات الاقتصادية والقرارات الإستراتيجية على المعطيات والبيانات الإحصائية وكلما كانت هذه البيانات دقيقة وحديثة أمكن اتخاذ القرارات المناسبة ومن ثم التحرك من الجهات المسؤولة عن معالجتها إذا كانت تلك البيانات مقلقة أو مكّنتها من الاستفادة منها كفرصة وتوجيهها لأغراض تنموية كدعم صناعات محددة وفتح الأسواق.
ولكن عندما يغيب الرقم الإحصائي الحديث «up to date» والدقيق فإن التقديرات تطلّ برأسها علينا من مصادر مختلفة فبعضها يبالغ والآخر يقلل وثالث يقدّر بناء على معطيات ومعلومات قد تشوبها الأخطاء رغم أنها تبدو قريبة أحياناً من الواقع لكنها تترك بالمحصّلة صاحب القرار في عتمة إحصائية باحثاً عن الدقّة والمواكبة الزمنية لهذا الرقم لما يجري على أرض الواقع.
ومن هنا أصبح متّخذ القرار الاقتصادي بكل جوانبه ربما غير قادر على اتخاذ قرار دقيق وربما غير مدرك لتفاصيل المشهد الاقتصادي بمؤشراته المختلفة وفق الواقع المعيش، وأحد أبرز مؤشرات الواقع المعيش هو معدّلات البطالة التي برزت توقعات وأرقاماً وتقارير أشارت إلى أنها وصلت ربما إلى معدّلات كبيرة رجّحت معظم المصادر غير الرسمية أنها تتراوح بين 30% و40% لذا حاولت «الوطن» إلقاء الضوء على هذا المؤشر المهم الذي يحتاجه صانع القرار نظراً لأهميته وتشابكه مع مختلف القطاعات الاقتصادية والحاجة الماسة لمتابعة تطوّره باستمرار وإذا اقتضت المتابعة في الظروف العادية معرفته بشكل سنوي أو نصف سنوي فربّما تقتضي الظروف الاستثنائية معرفته بشكل شهري، وهذا مالم نتمكن من الحصول عليه من المركزي رغم محاولاتنا المتكررة حيث لا توجد أرقام عن واقع 2012.
ولإلقاء الضوء على الموضوع قال الخبير الاقتصادي الدكتور مظهر يوسف لـ«الوطن»: «كان من الطبيعي نتيجة الأزمة وامتدادها فترة طويلة أكثر من المتوقّع أن تزداد معدلات البطالة ولاسيما في القطاع الخاص الذي تضرر بشدّة وخاصة قطاع السياحة والنقل والقطاع الصناعي في محافظة حلب، فقد تضرر جانب الطلب على القوة العاملة في ظل الظروف الراهنة في حين ازداد عرض القوى العاملة من جهة ثانية نتيجة ازدياد عدد الداخلين لسوق العمل، وقد شكّل ذلك انحساراً في فرص العمل بسبب توقف العديد من المعامل والشركات وما نجم عنه من تسريح للعمّال مقابل زيادة في الطلب على فرص العمل من خريجي الجامعات والمعاهد أو من الباحثين عن العمل المهني والحرفي ممن توقفت مسيرتهم التعليمية في المرحلة الثانوية».
وبيّن يوسف أن ما ينطبق على القطاع الخاص لا يشمل القطاع العام الذي لا يسرّح موظفيه ويحافظ عليهم، وحاول امتصاص جزء من جانب عرض العمل في السوق من خلال طرح 25 ألف فرصة عمل كان لها صدى إعلامي جيّد غير أنها مقارنةً بعدد الطالبين للعمل لا تشكّل شيئاً وبالتالي لا تسدّ الفجوة بين العرض والطلب في سوق العمل.
وأوضح يوسف أن الاقتصاد السوري يعاني أساساً وقبل الأزمة معدّل بطالة مرتفعاً، وتسببت الظروف الراهنة برفع معدّلات البطالة المرتفعة أصلاً وبتقديره فإنها فاقت حالياً 30%.
وكشف يوسف وجود أسباب لتباين النسب والأرقام الإحصائية للبطالة، من بينها التباين وعدم الاتفاق حول تعريف العاطل من العمل الذي يشكّل الأساس في احتساب هذه النسبة، حيث يعتبر أحد التعاريف أن من يعمل لساعة واحدة في الأسبوع غير عاطل من العمل، كما يوجد عدد كبير من الأشخاص يعملون في غير مهنهم الحقيقية فماذا يمكن اعتبارهم؟ كالخريج الجامعي الذي يعمل في مطعم أو على سيارة نقل عمومية، وأضاف سبباً آخر يتعلّق بالمسح الإحصائي وإثبات تعطّل الشخص عن العمل في ظل عدم تسجيله في التأمينات الاجتماعية على الرغم من مزاولته لعمل ما، وكلا هذين السببين يصعّب قياس البطالة بشكل دقيق، ويحتاج الموضوع تعاون جميع الجهات التي تتوافر لديها بيانات حول سوق العمل للوصول للرقم الدقيق.
وأوضح يوسف أن التأثير الأبرز لارتفاع معدّلات البطالة يتجلى بارتفاع معدّلات الفقر المرتبط معها طرداً، موضحاً صعوبة قيام الحكومة بمعالجة هذه المعدّلات المرتفعة قبل عودة الاستقرار الذي يمثّل الشرط الرئيسي لعودة النشاط الاقتصادي وعجلة الإنتاج الطبيعية التي تضمن خلق فرص العمل.
وبرأي يوسف يمرّ الاقتصاد السوري حالياً بحالة الحرب معتبراً معدّل بحدود 30% للبطالة طبيعي وأقل من الطبيعي رغم أنه مرشّح للارتفاع كلما طال أمد الأزمة.
وقد شهدت معدّلات البطالة ارتفاعات ترافقت مع الظروف الراهنة فبعدما سجّلت وفق الأرقام الرسمية 8.1% عام 2009 وحافظت على نسبتها عام 2010 مسجّلة 8.6% عادت لترتفع بشكل كبير فسجّلت 14.9% في نهاية عام 2011 من أصل قوة العمل التي سجّلت حينها 5.8 ملايين (الأرقام المعلنة في آذار عام 2012)، ولم تصدر بعدها أي أرقام رسمية عن العام الجاري.
ويرى مراقبون أن العدد الذي نتحدّث عنه من العاطلين من العمل قارب المليونين وهو حاصل ضرب قوة العمل في تقديرات نسب البطالة لهذا العام (5.8 ملايين قوة العمل نهاية العام الماضي 30% = 1.74 مليون) وأن هذه الأرقام مرشّحة للزيادة وهذا يدعو إلى ضرورة إعادة النظر بشكل كامل بموضوع التشغيل وخلق فرص عمل حقيقية بمجرد عودة الاستقرار بغية التقليل من كل أنواع البطالة (الفعلية والمقنّعة وغيرها) والوصول بها إلى أدنى مستويات ممكنة بحدود 5% وتوزيع قوة العمل بالشكل الأمثل وفق تخصصاتها لضمان عملية إنتاج فعلي أعظمي تحقق معدّلات تنمية سليمة ومتسارعة، وتتخلّص من الأخطاء السابقة قي هذا المجال.