عندما قررت تركيا أن تلعب دور القيادة الاقليمية للاستعمار الجديد تحت عنوان «العثمانية الجديدة» أو الخلافة الاسلامية العصرية «ظنت أن الطريق مفتوح امامها في ظل فراغ استراتيجي عربي،
وحصار غربي لايران، وتراجع في الدور او القدرات الاسرائيلية، ترافق مع تقلب في الظروف الاقليمية الى درجة تحول دون قيام اسرائيل بالدور الذي تصدت له يوم أطلق شمعون بيرس «فكرة الشرق الاوسط الكبير» أو «الجديد» والقائم حسب نظرياته على «الفكر الصهيوني» والمال العربي».
ظنت تركيا أن الطريق الافضل لانشاء قيادة تركية للمنطقة أولاً وللعالم الاسلامي ثانياً أمر تتيحه لها، قدراتها الاقتصادية وعلاقاتها مع اكثر من شعب في دولة مستقلة في آسيا الوسطى، كما وتاريخها الاسلامي، معطوفا على حاضرها الذي اظهر قدرة «الاسلاميين» فيها على الامساك بتلابيب الدولة وتخطي عقبة الجيش «حارس العلمانية» الاتاتوركية.
وبهذا التصور اطلقت تركيا – حزب العدالة والتنمية استراتيجية «صفر مشاكل» ظناً منها بأنها ستسقط الحدود في الجوار وانها ستتجاوز التاريخ المأساوي مع اكثر من شعب ودولة في المنطقة، وان هذا سيمكنها من الانطلاق السريع نحو الحلم الامبراطوري الجديد، ثم «اقتحمت» القضية الفلسطنية المعتبرة القضية المركزية للعرب والمسلمين (أعني الشعوب ولا أشمل الانظمة التي هي حراس للغرب ولإسرائيل)، ثم انطلقت في نسج علاقات أو التمهيد لبناء علاقات استراتيجية مع دول في المنطقة مبتدئة بسورية الجار الاقرب وذي الخصوصية المميزة. وكان داوود اغلو مهندس استراتيجية «صفر مشاكل» قد رأى في سورية المدخل الآمن الى العمق الاستراتيجي التركي (في كتابه الذي اصدره العام 2001) ولا يمكن لتركيا ان تحقق احلامها الا انطلاقا من تميز في الموقع داخل سورية.
وهنا لا بد من ان نسجل بأن سورية استجابت للسياسة التركية الجديدة، وشعرت بارتياح شديد لاقامة علاقات استراتيجية معها في نهجها الجديد – و هي الدولة الاطلسية ذات العلاقات المميزة مع اسرائيل» - لان مثل هذه العلاقات ستؤدي في الحد الادنى الى تحييد القوة التركية في الصراع مع العدو الصهيوني مع قابلية الاستفادة منها في اكثر من وظيفة تكون تركيا قادرة على القيام بها في اطار الصراع اقله التراجع عن الدعم الفظ لاسرائيل.
لكن تركيا لم تكن امينة وصادقة في مسعاها، بل كانت تضمر خلاف ما تظهر. إذ ما إن اندلع العدوان الغربي على سورية تنفيذا لخطة اميركية اعتمدت «استراتيجية القوة الناعمة الذكية»، حتى انبرت تركيا للعب دور المدير الميداني للعدوان، مبتدئة تدخلها بلعب دور «المعلم الأستاذ» لسورية واجازت لنفسها ان تخاطب سورية بلغة استعمارية استعلائية، وتصرفت كما لو ان سورية ما زالت احدى ولايات السلطنة العثمانية، وهنا كان المظهر الاول من سوء التقدير التركي حيث اصطدمت النزعة العثمانية الجديدة بعنفوان عربي سوري منع استعادة الماضي وأكد على السيادة والكرامة لسورية، ما جعل الامر ينعكس حنقاً وحقداً تركياً على سورية ترجم فورا بالانخراط في العمل الميداني ضدها.
وفي المرحلة الميدانية لعبت تركيا دور المتدخل المتآمر على سورية وعلى صعيدين:
- فعلى الصعيد السياسي رعت جمعاً من عملاء المخابرات الاجنبية و فئات من حاقدين او متعطشين الى السلطة و انشأت منهم مجلساً سمي زوراً بأنه «مجلس وطني سوري»، في حين ان حقيقته كانت خدمة المصالح الاجنبية في سورية، و قد ظنت تركيا ان مجلسها الصنيعة سيكون بديلاً للسلطة الشرعية في سورية، وهنا كان سوء التقدير الثاني حيث إن هذا المجلس كما نشأ دمية استمر دمية تتآكل الى الحد الذي اصبحت جثة نتنة تزكم الانوف وبات عبئاً على صانعيه وتركيا في مقدمتهم.
- أما على الصعيد العسكري فقد جعلت تركيا من نفسها قاعدة الانطلاق والتحشيد الارهابي ضد سورية، تمهيداً لتنفيذ عملية دولية واسعة تكون هي رأس حربتها وتحصد هي مكسبها –كما ظنت– وتتحول سورية الى حديقة خلفية للامبروطورية التركية المتجددة. وهنا كان سوء التقدير في وجه جديد، حيث إن العمل العسكري الدولي تأكدت استحالته وبات الحديث فيه مضيعة وقت، ما جعل تركيا تركز على العمل العسكري الداخلي المنفذ بوسائل إرهابية اجرامية.
لقد عولت تركيا على الارهاب ضد سورية أيما تعويل وتصورت ان سورية ستسقط في غضون أسابيع وستفتح أبواب دمشق للسلطان العثماني الجديد، وهنا كان وجه آخر من سوء التقدير التركي، حيث إن سورية بكل مكوناتها الوطنية من رسمية وأهلية صمدت وكسرت المد الارهابي ما وضع تركيا أمام واقع مر يبدو انها لم تتحسب له.
لقد ظنت تركيا ان الدفاع الذي مارسته سورية وحلفها الاقليمي المتماسك ضمن محور المقاومة، والمتناسق مع جبهة دولية ناشئة، ظنت ان هذا الدفاع لن يقوى على المواجهة، وفي احسن الاحوال لن تحترق اصابعها من ناره، وهنا كان الوجه الاخطر من سوء التقدير التركي، إذ ان مجريات الميدان والمسرح عاكست تركيا وأحلامها وهنا نتوقف عند العناصر الاساسية التالية:
1) ) عجز تركي نهائي عن ربح المعركة الارهابية التي انخرطت تركيا فيها الى جانب جبهة العدوان على سورية، وقناعة تركية ضمنية بأن ما عولت عليه من اسقاط للنظام السوري هو حلم عقيم و أمل يستحيل تحققه، فالشعب السوري وحده هوالذي يقرر لنفسه ولا يقرر له حد.
2) ) عجز تركي عن التدخل العسكري المباشر و بالقوات العسكرية الذاتية لمعالجة الاخفاق والفشل الذي تحقق، حيث إن تركيا تعلم ان كل ما تقوله من مناطق آمنة وممرات انسانية و مناطق عازلة و ما اليه من عناوين تتحد حول فكرة التدخل العسكري الاجنبي في سورية، كل ذلك غير ممكن التنفيذ في ظل صلابة سورية وحزم ايراني وثبات روسي على فكرة رفض مثل هذ التدخل حتى ولو اقتضى الأمر المواجهة العسكرية الدولية الشاملة، وتركيا وحلفاؤها غير مستعدين لذلك.
3) ) خوف تركي جدي وحقيقي من مستقبل العمل الارهابي الذي قادته ضد سورية باشراف وتوجيه أميركي، وهنا نتذكر ظاهرة «الأفغان العرب» الذين تحولوا الى عبء ومشكلة للدول التي انطلقوا منها لمحاربة الاتحاد السوفييتي، اذ ما إن خرجت القوات السوفييتية من افغانستان حتى تحول هؤلاء الى «مقاتل عاطل عن العمل» وباتت دولهم تستشعر خطرهم وحال تركيا اليوم ليس بعيداً عن هذا. ولأجل ذلك سارعت تركيا للاستغاثة باميركا للمساعدة في الامر، وكان الاجتماع العسكري الأمني الأخير بين الدولتين خلافا لما روج له وقيل بأنه من أجل اعداد خطط التدخل العسكري في سورية، بل كانت حقيقته إعداد خطط الدفاع الأمني عن تركيا التي باتت تخشى من العصف المضاد والمرتد عليها من القلعة السورية التي صمدت في وجه الاعصار الارهابي العدواني.
4) ) رعب تركي من فتح ملفات باتت قيد الانفجار في وجهها وهي التي حاولت ان تخفيها في سياق ما زعمته من سياسة «صفر مشاكل» والتي انقلبت الى واقع «صفر أصدقاء» والأخطر في هذا الامر ان العداوة المتجددة لصيقة بالشعوب اكثر منها بالانظمة، ونذكر هنا الملفات الاساسية الأربعة التي تمس جوهر الكيان التركي وتؤرق العين التركية:
أ) الملف الطائفي: ظنت تركيا أن اضرام نار طائفية في سورية، ستحرق سورية فقط، ونسيت ان مجتمعها غير متجانس مذهبيا ودينياً وان الاتصال الجغرافي يجعل من اثر النار في الجوار ينتقل حتما الى داخل الدار وهذا ما باتت تستشعره تركيا الآن.
ب) الملف القومي: ظنت تركيا انها تملك القوة الدائمة لمنع التحرك الكردي المؤلم ضدها، وهنا كان وجه من وجوه سوء التقدير ايضاً، حيث ان التحرك الكردي الذي ارتقى الى مستوى مؤلم وفاعل بات يقض مضاجع الاتراك ويلزمهم باعادة النظر الجدية بكامل الملف.
ت) الملف السياسي: ظنت تركيا ان استنادها الى الحلف الاطلسي سيمكنها من تخطي مواقف الدول الاقليمية و يمكنها من فرض سياسيات تناسبها، وإذ بها تدخل نفسها رويداً رويداً في عزلة سياسية قاتلة، حيث ان من كانت تعول على صداقتهم في سياستها العدوانية ضد سورية باتوا يبتعدون عنها خشية من طموحاتها ومن كانت ترى في عدواتهم منفعة لها لأنها قادرة على سحقهم وإملاء أوامرها عليهم اظهروا من الصمود والقوة ما اذهلها. و انقبلت في ذلك الى حال «صفر أصدقاء».
ث) الملف الأمني: رغم كل ما تحاول تركيا ان تنكره حول التراجع الامني في نطاقها، فان الامر بات حقيقة مؤلمة وخاصة للاقتصاديين وأكثر تحديداً في المجال السياحي حيث ان تركيا خسرت في الاشهر الستة الاخيرة اكثر من 50% من العائدات العادية.
لكل ذلك باتت تركيا تلهث وراء اميركا تتوسلها لاخراجها من الورطة التي دخلت فيها، حيث انها لم تخسر في الهجوم العدواني على سورية فحسب، ولم تكشف حقيقتها وزيف ادعاءاتها فقط، بل انها غير مطمئنة لحفظ ما بيدها من اوراق، وباتت التظاهرات في انطاكية والمطالبات الارمنية، والهجمات الكردية، و أصوات المعارضة و الاحزاب السياسية التركية المناوئة لسياسة أردغان واحجام دول المنطقة عن الثقة بها او التعامل الآمن معها، باتت تتحشد لتولد اعصارا تكون ريحه في غير ما تشتهي سفن أردوغان وأوغلو، وتذكرهم بالقول المأثور: طابخ السم آكله.