تردد «المعارضة النخبوية» المشكلة من كتّاب وصحفيين وغيرهم من أهل صنَّاع الرأي، دعوتها للدولة للأخذ بالخيار السياسي ككيفية وحيدة لمعالجة الأزمة التي تعصف بسورية، مقابل إلغاء الخيار الأمني، الذي حسب هذا الطيف من المعارضة، لن يوصل إلاّ إلى تفاقم هذه الأزمة وازديادها حدّة وتعاظم مشاهدها العنفية وطغيانها على آفاق المستقبل. والحقّ أن هذه المعارضة النخبوية بحصر المعنى، منذ نشوئها لم تظهر في أدبياتها أي ميل نحو الأخذ بالخيار العنفي من أجل إحداث تغييرات في النظام السياسي الراهن، بل إنها تعتبر نفسها إحدى ضحايا هذا الخيار الذي يفترض أنه أداة أو وجه من وجوه الدولة، حسب الشروحات الماركسية للدولة وطبيعتها ووظيفتها.
في الفصل الراهن من الأزمة السورية، تواصل هذه المعارضة لازمة هجاء الحل الأمني الذي تأخذ به الدولة في مواجهة «معارضة أخرى» يفترض أنها على نقيض بنيوي ثقافياً وسياسياً مع المعارضة النخبوية، على أنها وباعتمادها هذه اللازمة تضع نفسها في مأزق سياسي وثقافي وأخلاقي في آن. ذلك لأن «المعارضة الأخرى» اعتمدت الخيار الأمني- العنفي منذ أن بدأت النزول إلى الشارع، وهو خيار واضح غير قابل للتمويه وغير قابل للتغطية بأصوات «المعارضات السياسية» النخبوية وغيرها. فالسلاح موجود والعنف واضح والتحريض مسموع على مدار الوقت والضحايا يتساقطون بأسلوب «تكفيري» أو ما يقترب منه.
إن الأخذ بخيار الحل الأمني- العنفي من قبل هذا النوع من المعارضة يبطل الأخذ بخيار الحل السياسي الذي تنادي به «المعارضة النخبوية»، وأكثر من ذلك تصبح هذه المعارضة في حالة من التضامن التام أو أخذه بالحلّ الذي تدعو الدولة لتركه وذلك إزاء مشهد التواطؤ المكشوف الذي تمارسه عبر صمتها وسكوتها عن عمليات العنف الوحشية، فبدلاً من أن تجاهر بإدانتها لهذه العمليات ومرتكبيها جنباً إلى جنب مع إدانتها المتكررة للدولة لأخذها بالخيار الأمني، تعمد إلى تجاهل هذه العمليات ودوافعها ومآلها وما تنطوي عليه وتوصل له، في موقف لا يمكن تفسيره أخلاقياً ولا يمكن ملاحظة وجود أي عامل ثقافي- بنيوي يوحد هذه المعارضة مع تلك، ولكن بالتأكيد يمكن التيقن من وجود العامل السياسي الذي يبرر وحيداً وحدة الموقف ما بين المعارضة النخبوية والمعارضة العنفية، بما يعني على نحوٍ واضح أن المعارضتين تعملان في إطار حقل «الصراع على السلطة».
في مطلع تسعينيات القرن العشرين، انتهت الحرب الباردة وسقط الاتحاد السوفييتي الماركسي أمام الولايات المتحدة الرأسمالية، التي غنمت موقع «القطب الأوحد» في عالم اليوم، والذي أكسبها سيطرة متزايدة على جغرافيا سياسية أمست دون حماية، كما ساعدها على نشر وتعميم نمطها الثقافي والإعلامي. كثير من المفكرين والكتّاب والصحفيين والفنانين في الدول الاشتراكية السابقة انتقلوا إلى ضفة الليبرالية الجديدة الأميركية تحديداً. والخشية أن تكون «المعارضة النخبوية» السورية من المكتسبات التي ورثتها واشنطن عن موسكو، وهو إرث تم إجراء عمليات «للبرلَتَه» على النحو الذي يجعله في موقع سياسي واحد مع غير معارضة... للأسف.. للأسف الشديد.