كثير مايُطرح مؤخراً حول سبل الخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد عدداً من التساؤلات والردود على كافة المستويات الرسمية والشعبية، بما ينطوي عليه ذلك من تناقضات وتباينات بسبب التشظي والتذرر الذي خلّفه المشهد الاحتجاجي العربي المريب، الذي لايمكن أن ينضوي في أغلب مظاهره تحت عنوان ثورة. ومع وصول الإبراهيمي الى سورية لا داعي للتذكير بأن سورية لم تقفز فوق الاعتراف بالمكوّن الداخلي للأزمة، ولذلك بادرت الى إجراء ناجز لخطوات المشروع الوطني للإصلاح. لكن هذه المبادرة قوبلت بتضافر قوى محلية وإقليمية ودولية على تقويضها، فالتسليح والتدريب والدعم المالي والإعلامي لم يتم في يوم وليلة، بل اقترن بنظرية وخطة معلنة للعودة بالوطن والأمة الى العصر الحجري، وتمكّنت سورية، وستتمكن غداً أكثر بوعي شعبها وتماسك مؤسساتها من تسديد ضربات مستمرة وموجعة ومتصاعدة لأطراف المؤامرة على وحدتها وسيادتها ودورها واستقرارها. لكن من جهة أخرى لابد من التذكير بجملة من الحقائق، أهمها: - إنها حقائق واضحة، تاريخية وواقعية وليست سياسية ولا حزبية. فمايجري في سورية اليوم يؤكدها على الرغم من الجهود والضغوط الضخمة المبذولة والمدعومة لتزويرها. ولتقويض أية مبادرة وطنية للحوار والحل السياسي يمكن أن يُكتب لها النجاح، لأنه من المعروف أن القيادة السياسية السورية كانت ولاتزال قادرة على تقديم مبادرات، تُغني الحياة الوطنية وتعيدها الى سابق عهدها، ولاسيما خلال الأزمة التي ترخي اليوم بظلالها القاتمة على الحياة العامة في البلاد. - إن مايُقال اليوم عن تسوية تاريخية للأزمة يجب أن يقترن ضرورةً بالثوابت الوطنية لا غير، فمن الواضح أن الغرب والرجعية وعثمانية أردوغان يعملون على الانتقال بالسيرورة التاريخية للأزمة الوطنية والعربية الراهنة الى صيرورة تاريخية تقسيمية بغيضة مفسِدة، تتقدّم فيها برامج الإسلام السياسي على برامج الوعي الوطني القومي التقدمي العلماني التي هي أساس العيش المشترك ولاسيما في مجتمعات المنطقة. - ليست الأزمة التي تعيشها سورية حرباً أهلية ولا طائفية، فلهذه الحرب شروطها وأسبابها التي يُحتكم في تعريفها الى القانون والمجتمع الدولي، وإنما هي تمرّد وعبث وانفلات غريزي وقطيعي يغذّيه الدعم الخارجي، وآية ذلك تعثّر الحل السياسي ورفض الحوار. - ليست المعارضة المسلحة في سورية قوى وطنية سياسية بالأساس، ولا تملك وعياً أو برنامجاً وطنياً يؤهلها لتكون كذلك، لأنها مازالت تعمل على أن تكون البلاد أرضاً وشعباً بلا قانون وبلا مؤسسات مدنية. بل هي في أغلبها جزء من مجموعات جهاد عالمي عابر ومتنقل ترتكب جرائم بحق الدولة والوطن والمجتمع قبل جرائمها ضد السلطة. ولذلك لاتملك الوعي والالتزام اللازمين والمؤهلين للتعامل مع أي مبادرة وطنية للحل. - لم تنطلق المعارضةالمسلحة من نسق معرفي أو فلسفي، ولا من حراك وطني في صميمه، نظراً الى التدخل العابر الإقليمي والدولي في عملها وفي أسبابه ونتائجه، وهي منقطعة الصلة والشبه بالثورات الوطنية في العصر الحديث كالثورة الفرنسية أو ثورة أكتوبر في روسيا، ومعهما اليقظة أو النهضة العربية التي أسس لها أعلام التحرر الوطني العربي الكبار من أمثال الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول ونجيب عازوري وشبلي شميّل وسلطان الأطرش. إنها مشهد رجعي بامتياز يقوم على أنقاض بالية من مخلفات قرن مضى تم تجاوزها في معارك الاستقلال والتحرر العربي، ويتم الآن بعثها عن طريق إحياء مؤثرات القوى التقليدية للاستعمار والرجعية. فأي ثورة وطنية تحرّكها قطر وتركيا والغرب اعتماداً على قوى الجهاد العالمي السلفية؟! - من الواضح أن الأزمة تصفية عابرة ومفتوحة للحسابات بين القوى الإقليمية والدولية تهدف الى إخضاع سورية للسياسات الغربية والرجعية والعثمانية الجديدة، ضد صمودها ودفاعها عن استقلال القرار، والعروبة، والعلمانية. والدليل على ذلك تدفق وسائل الجهاد العالمي إليها والذي يحظى بتغطية وتبرير مراوغين على المستويات السياسية والإعلامية والمالية، ليجتمع على أرضها مظهر من مظاهر أممية الإرهاب. وهذا ما لايجب أن يقفز فوقه الإبراهيمي، ولا الإدارة الأمريكية الجديدة. - صحيح أن الأزمة تاريخية وغير معهودة، لذلك هي بحاجة الى تسوية وطنية أولاً تحفظ لسورية وحدة شعبها وسيادتها ودورها تحت سقف الوطن وليس على قياس مبادرات يرضى بها المتنقلون بين العواصم والفنادق والمطارات، والعصابات المسلحة، وعدد من القوى التي دُفعت قسرياً للعمل على مشروع إرجاع الشرق الأوسط الجديد الى شرق إسلام سياسي على طريقة القرون الوسطى. لذلك تتقدم التسوية الوطنية على التاريخية، فالثانية في هكذا ظروف لاتنتج إلا وليداً عليلاً قزماً. فلا بد للمجتمع الدولي من العمل على تقويض الإرهاب الأممي العابر ووقف تنقله ودعمه، والاحتكام الى الحوار والثوابت الوطنية المعروفة، وإلا فسيكون كل نظام في المنطقة عرضة للاهتزاز مع صرخة "تكبير"..!.